من أطفأ نيران مجزرة كركوك1959؟؟؟؟؟؟
الدكتور صبحي ناظم توفيق (عميد ركن متقاعد- دكتوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي)
الصورة للسيد الفريق الركن طارق محمود شكري-المفتش العام للقوات المسلحة العراقية في عقد الثمانينيات
بعدما شرفني عدد غير يسير من المجلات الدورية التركمانية ومواقع الإنترنت بنشر مقالاتي المتتابعات عن مجزرة كركوك1959، فقد هاتفني معلمي ومديري في وزارة الدفاع وقائدي أثناء الحركات العسكرية وأحد بيارق الجيش العراقي “الفريق الركن طارق محمود شكري” -المفتش العام للقوات المسلحة خلال الثمانينيات وصاحب العديد من المؤلفات والكتب والتراجم الرصينة والمتابع المشهود له في العلوم العسكرية والإستراتيجية والتأريخ- بعد إطلاعه على تلك المقالات مُشَخـِّصاً بعض النقاط والمفرقات في متونها.
أسرعتُ إليه لأتشرف بزيارته في مسكنه العامر ببغداد مساء (الثلاثاء 18/ت1/2014) فارشاً أمام ناظريه صفحات مطبوعة لمقالاتي تلك، فتبادلنا الحديث على الوجه الآتي:-
الفريق الركن طارق:- لا ملحوظات لدي حيال ما سطرته أنت من حقائق مؤلمة وسواها في القسمين الأول والثاني من مقالتك المطولة والتي سردت فيهما أوضاع مدينة “كركوك” ما قبل المجزرة ومشاهداتك في أيامها الثلاثة بأحداثها الدموية، فتلك خصوصياتك وأنت مسؤول عن مصداقيتها.. إلاّ أن القسم الثالث الموسوم “من أعلم عبدالكريم قاسم بأخبار المجزرة؟؟؟” وكذلك البعض من الجزء الثاني فإنهما يحتويان أموراً وقفت عندها ولا بد من إيضاحها.
أنـا:- سيدي الفريق، وأنا أتشرف لمجرد إهتمامك بمقالاتي ومتابعتك لها، وجاهز لتقبل ملاحظاتك أزاءها بكل رحابة صدر وسرور.
السيد الفريق:- حسناً… قبل الخوض في التفاصيل أود الإيضاح بأن العاملين مع “الزعيم عبدالكريم قاسم” من العسكريين القريبين منه منذ (14تموز1958) وما تلاه، هم:-
الرئيس أول الركن/الرائد الركن “جاسم العزاوي” وليس “قاسم العزاوي” كما أوردتَ إسمه في مقالتك، وهو سكرتيره الشخصي وليس مرافقه.
الرئيس أول/الرائد “قاسم الجنابي” مرافق.
الرئيس/النقيب “حافظ علوان” مرافق كذلك.
أما “العقيد وصفي طاهر” فكان المرافق الأقدم.
أنـا:- شكراً سيدي على التصحيح، ويبدو أن كلمة “قاسم” قد إختلطت علي أو ربما على سواي مع الإسم “جاسم”، كما أننا لم نسمع في حينه سوى بـ”العقيد وصفي طاهر” مرافقاً عسكرياً لـ”الزعيم عبدالكريم قاسم”.
السيد الفريق:- نعم، ولكن الواجب يملي على كل من يدوّن شيئاً من التأريخ، أن يكون في غاية الدقة حتى في أبسط الأمور، لأنه إن أخطأ ولو في إسم شخص أو منطقة أو عند تحديد تأريخ أو ساعة، إذْ لو إتضح بعدئذ العكس فإن القارئ قد يفقد ثقته أو تتضاءل فيشكك في جميع ما أورده ذلك الباحث من معلومات.
أنـا:- صحيح يا سيدي، ولكني لا أحاول الدفاع عن نفسي بعد أن نقلت إسم ذلك المرافق أو السكرتير عن أفواه السادة الذين تحدثوا عن تلك المجزرة وذيولها، فقد كنت عام (1959) تلميذاً في الثالث المتوسط.
السيد الفريق:- حسناً… والآن دعني أسألك تحديداً، هل شاهدتَ بعينك المدرعات التي تطرقت إليها وسط الجزء الثاني من مقالتك، وكم كان عددها، ولمن تعود؟
أنـا:- نعم كنت قريباً من المستشفى الجمهوري في قلب “كركوك” عصر يوم (17تموز1959) حين شاهدت بأم عيني (4) مدرعات تسير بشكل متفرق من إتجاه طريق “بغداد”، وقد تقربتُ من إحداها بعض الشيء على سبيل الفضول… ولكن من الطبيعي في ذلك الوقت أن لا أشخص لمن تعود.
السيد الفريق:- هنا بيت القصيد، فأكبر الظن أنها من مدرعات الإنضباط العسكري للفرقة/2 والذي صدر أمر فوري بإناطة آمريته إلى “الرئيس/النقيب رشيد العبدلي” ليحل محل “الرئيس/النقيب فوزي نشأت” المتهم بكونه أحد قياديي المجزرة، وليست لكتيبة مدرعات الفرقة/3 والتي يُزعَم أنها أتت من “جلولاء” لنجدة “كركوك” حسبما كتبت، لأن هذه الكتيبة لو وصلت إلى “كركوك” لإتصلنا مع بعض من أجل التنسيق في حفظ الأمن لكوننا قد أتينا من خارج قوات الفرقة/2 وللغرض نفسه، ألا وهو إستتباب الأمن في المدينة.
أنـا:- يا سيدي، ليس السادة الثلاثة -رحمة الله على أرواحهم- قد ذكروا لوحدهم حركة تلك الكتيبة لتطهير “كركوك” فحسب، بل أن أي مواطن في مدينتنا، وبالأخص من تعايش مع أوزار المجزرة أو كان قريباً منها لديه قناعة راسخة حتى يوةمنا هذا بأن كتيبة مدرعات بقيادة “العقيد عبدالرحمن محمد عارف” هي التي أعادت سيطرة الدولة على مدينتهم المنكوبة.
السيد الفريق:- لهم الحق أن يعتقدوا ما يشاؤون، ولكن قدر علمي ومعايشتي للأحداث والمشاركة في أتونها والتعرض لنيرانها فإني لم ألمس شيئاً من ذلك… والآن دعني أبين لك بعض الأمور التي تتعلق بحركتنا إلى “كركوك”:-
كنت “نائب مساعد” الفوج الأول/اللواء الأول بقيادة “العقيد عبدالقادر أحمد أديب”، وقد تحركنا من معسكرنا في “الـمُسَيَّـب” منذ (آذار1959) إلى “الموصل” لفرض الأمن في ربوعها إثر أحداث “حركة العقيد الركن عبدالوهاب الشواف” وذيولها، وكنا نعسكر في البعض من أبنية “مطار الموصل العسكري” حتى أواسط (تموز1959)، وقتما حل يوم 14منه فأقمنا إستعراضاً عسكرياً في شوارع المدينة بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لقلب نظام الحكم الملكي، ومُنِحَ الفوج على إثرها إستراحة في اليوم التالي.
بحدود الساعة الواحدة ظهر يوم (15تموز1959) وردتنا رسالة (سرية وفورية) من مديرية الحركات العسكرية بوزارة الدفاع معنونة إلى فوجنا مباشرة تقضي بحركتنا (فوراً) وبمرحلة واحدة نحو مدينة “كركوك” لفرض الأمن لحدوث مشكلات فيها، وأُعطِيَت نسخة منها إلى المراجع ذات العلاقة.
أصدر الفوج أمراً إنذارياً بالحركة وأسرعنا لجمع الضباط والمراتب المتمتعين بالراحة سواء أكانوا بالمعسكر أو في المدينة للمباشرة بإستحضارات التنقل وتهيئة الأسلحة والأعتدة والعجلات والمتطلبات الأخرى، فتحركنا بالساعة السابعة مساءً على طريق “أربيل” بمرحلة واحدة دون توقف حتى بلغنا ضواحي “كركوك” الشمالية بالساعة الرابعة من فجر (16تموز) لنتخذ موقعاً بالقرب من معمل المشروبات الغازية (البيبسي كولا) مقراً لفوجنا، فيما إنتشرت سرايانا بتلك المنطقة.
هاتف آمر فوجنا السيد وكيل قائد الفرقة/2 “الزعيم/العميد محمود عبدالرزاق”، فقال بالحرف الواحد:- (أسرعوا لفك الحصار عنا)!!! فقد كان هذا القائد وجميع ضباط قيادة الفرقة وسط “كركوك” محاصَرين في مكاتبهم بالثكنة الحجرية لا حول لهم ولا قوة ليومين متتاليين منذ مساء (14تموز).
بعد هذه المكالمة دفعنا سرية واحدة نحو قلب المدينة بمهمة فك الحصار عن مقر الفرقة/2، ولكن الشوارع الخالية من الأهلين والمؤدية إليه لم تكن سالكة ومفروشة بالزهور، بل بوابل نيران غزيرة تنهمر من دور وبنايات على جانبي الشارع العام من رشاشات وبنادق لا يُعرَف من يطلقها، وقد علمنا فيما بعد أنهم جنود ومدنيون مسلحون وأفراد من المقاومة الشعبية الشيوعية، والذين تمترسوا مستميتين على الأخص في مبنى إحدى دور السينما القريبة من تلك القيادة، حتى تم القضاء عليهم وأجبرنا العديد منهم على تسليم أنفسهم قبل التوجه لإنهاء الحصار المفروض على مقر الفرقة بحدود الساعة الواحدة بعد الظهر، فتمركزت فصائل السرية حواليه في مباني دائرة الإنضباط ومستشفى “كركوك” العسكري… أما السرايا الأخرى فقد وجهناها منذ صبيحة اليوم ذاته لضبط الطرق الخارجة من المدينة للحيلولة دون هروب العابثين، ناهيك عن ضرورات الإنتشار في عدد من الساحات ومفارق الطرق ومسك الجسور والحفاظ على الدوائر العسكرية والمدنية والمستشفيات، حتى إستتبت الأوضاع في أنحاء المدينة شيئاً فشيئاً.
ومما لم أنسه قط طيلة حياتي رغم كونها حبلى بدماء المعارك والحروب، فقد كنت شاهد عيان لمنظر مُؤسف بشع عند إخراج (41) جثة مغدور بها كان المجرمون قد سحلوهم وقتلوهم ومثلوا بجثامينهم وتركوهم تحت قساوة الشمس وحَـرّ تموز اللاهب والشوارع المبلطة الحارقة قبل أن يقذفوا بهم وسط مَكـَبّ للنفايات قرب “نهر خاصة”، إلاّ أن قـَدَر إثنين منهم شاء أن يبقيا في رمقهما الأخير حتى أسرعنا بنقلهما إلى المستشفى لتـُكـتـَبَ لهما الحياة مجدداً بمشيئة الله تعالى.
عاد ضباط ومراتب الفوج/2 من اللواء/4 المنتشرين في شوارع “كركوك” ومحيطها إلى معسكرهم، وألقينا القبض على أعداد من المراتب والمدنيين المسلحين الذين قاومونا بالسلاح، فإعتقلناهم وأودعناهم سجنَ سرية الإنضباط العسكري للفرقة/2 في قلب المدينة مشددين عليهم الحراسة خشية هروبهم بمعاونة البعض في ظل تلك الأوضاع الهشة.
كل تلكم الإجراءات الإحترازية إتخذناها قبل أن يحضر إلى كركوك “مجلس تحقيقي عسكري” عالي المستوى برئاسة مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع “العقيد الركن عبدالرحمن عبدالستار” وعضوية ضباط وقضاة مدنيين كان “الزعيم عبدالكريم قاسم” قد أمر بتشكليه بصفته وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلحة ورئيساً لمجلس الوزراء، وقد أتى من “بغداد” على عجالة ونزل بمقر الفرقة/2 إياماً عديدة متعمقاً في تفاصيل التخطيط للمجزرة وتنفيذها، حتى توصل إلى توجيه تـُهَم القتل العَمْـد مع سبق الإصرار والترصد بحق (23) من الموقوفين، وقد تطرق إليهم “عبدالكريم قاسم” في خطابه بكنيسة “مار يوسف” في “بغداد” مساء يوم (19تموز1959) وتحدث عما إقترفوه من جرائم وحشية يندى لها جبين الإنسانية.
كان الحدث الآخر الذي يهز الوجدان ويثير المشاعر الإنسانية الجياشة هو إحضار إبن الشهيد “عطا خيرالله” لتشخيص قتلة أبيه من بين العشرات من العتاة حتى أرعبه المشهد وهو ما زال طفلاً غضاً مُرهفاً لم يبلغ العاشرةفما أن تـَطـَلـَّعَ إلى وجوههم وإسترجع لحظات قتل والده أمام ناظريه وأشار إلى أحدهم حتى صرخ عالياً وذرف دموعاً ساخنة حتى كاد أن يُغمى عليه لرؤية تلك الوجوه المتجهمة التي فقدت آدميتها وتنمّرت متوحشة كالضواري.
بعد ذلك كلـّفني آمر الفوج بمهمة نقل أولئك المتهمين إلى “بغداد”، فإتخذت إحدى عربات الدرجة/3 من القطار النهاري المتوجه إلى “بغداد” وتحت حراسة مشددة، واضعاً أمام ناظريّ أسوأ الإحتمالات أن يتعرض القطار لهجوم شرس تقدم عليه مجاميع مسلحة قد تتواجد على خط سكة الحديد بغية إيقافه عنوةً لتخليصهم من بين أيدينا، لذلك فقد ربطتُ أيدي كل إثنين بجامعة يد واحدة وثبّـتـُها بمقعد القطار حتى بلوغنا “بغداد” في عصر اليوم نفسه بسلام، لنجد بإستقبالنا في محطة قطار “الباب المعظم” عجلات مسلحة محملة بمراتب ومدرعات من الإنضباط العسكري لغرض نقلهم إلى السجن رقم (1) الحصين في معسكر الرشيد.
أنــا:- ، ، ولكن ربما ظل ببالي سؤال يتيم يشغلني، فهل يجوز أن كتيبة مدرعات الفرقة/3 قد تحركت إلى “كركوك” بعد إنقضاء مدة على المجزرة؟؟ ولذلك تصور العديد من الناس أنها هي التي أخمدت الأحداث وشاركت في أعادة سيطرة الدولة على المدينة.
السيد الفريق:- لم يصل إلى علمي طيلة الأيام والأسابيع اللاحقة لذلك الحدث المريع، والتي واصل فوجنا خلالها مرابطته في “كركوك” مدة غير قصيرة، كما لا أستطيع أن أجزم… ولكن قدر علمي ليس هنا شيء من ذلك، ولم ألتـَقِ بأي عنصر من عناصرها، ولربما جاءوا بعد أن ترك فوجنا مدينة “كركوك” فبقيت تلك الكتيبة في الذاكرة الجمعية لأهل المدينة بعد أن صحوا من هول الصدمة ونسوا الفوج، وأن هذا الأمر لا يحسمه سوى “جريدة الحرب” الخاصة بالكتيبة إن ظل لها أثر.
وأخيراً أود أن أختتم حديثي عن “المقابر الجماعية” التي تـُثار دائماً، فانا أقول أنها بدعة من بِدَع “إنقلاب 14تموز1958” كونها لم تكن معروفة قبله، فقد كانت أولاها في “وادي الدملماجة” بضواحي مدينة “الموصل” بعد إخماد “حركة الشواف” (آذار/مارت1959)، وثانيتها في “كركوك” أيام مجزرتها في أواسط (تموز1959) موضوعة بحثنا، وقد شاء قدري أن أكون شاهد عيان لكلتيهما… ولكن يبدو وكأنها أضحت مثلاً يُحتذى بها منذ ذلك التأريخ وحتى يومنا هذا، بل وتكررت وتضاعف عددها وأعداد من قـُذِفوا فيها، فلم يَنقـَضِ عهد خلا من مقابر جماعية مع الأسف، وكأن ما يسمونه بـ”الثورات” جاءت من أجل المجازر وتحقيق تلك المقابر وليس لإسعاد الناس كما تصرخ شعاراتهم قبل ((ثوراتهم)) عادة… لذلك فلا يمكننا إطلاق تسمية ((ثورة)) على أي منها، بل هي إنقلابات دموية بكل ما في العبارة من معنى تميزت بالعنف والشراسة والمذابح ولم تجلب لشعب العراق خيراً وكانت نهاياتها جميعاً كارثية بحق الوطن والمواطن، وكأن القادم الجديد حمل على عاتقه في كل مرة دوراً مُضافاً في تدمير ما يقتدر على تدميره بشكل أفضل من سابقه، حتى أوصلونا إلى دمار الذمم والضمائر والأخلاق والمبادئ والروح الوطنية، لتغدو البلاد والعباد في أسفل سلالم أدنى دول العالم تخلفاً؟؟؟!!! وتمسي “عاصمة الرشيد” أسوأ عواصم المعمورة لسكنى البشر!!!
ولا بد لي في ختم الختام إلاّ أن أستذكر بيتاً لأمير الشعراء “أحمد شوقي” وقتما غرَّدَ:-
وطني إن شـُغلتُ في الخلد عنه شاغلتني إليه في الخلد نفسي
أنـا:- سيدي الفريق، أنا عاجز عن الشكر لشخصك الغالي وأعتذر لمقامك العالي فقد أشغلتك وإستحوذت على البعض من وقتك الثمين… ولكن أرجو أن تسمح لي لأتحدث عن ذاتي، فالحقيقة المؤسفة التي باتت مترسخة في أعماقي أني عدت أشكك لأي سرد عن وقائع جميع عهود الـتأريخ لما تلمسته من تناقضات وتباينات بين هذا القاص وذاك رغم مستويات ثقافاتهم ومعارفهم، فوقائع التأريخ القريب للغاية والتي عشنا أيامها وتعايشنا لياليها، فإن هذا يسردها من زاويته ويتحدث عنها آخر من رؤيته ويرويها ثالث من نظرته في القرنين/20، 21 بثورة إتصالاتهما وأقمارهما وفضائياتهما ومواقع تواصلهما الإجتماعي. فكيف بنا نصدق مجريات قرون وسطى وسحيقة وأحداث ما قبل التأريخ وقتما لم تكن الكتابة بالأحرف المعروفة في يومنا معروفة آنذاك؟؟؟
صورة كاتب المقال العميد الركن صبحي ناظم توفيق في تموز عام 1984