مذكرات صحفي تركماني
الحلقة الثالثة عشرة
قصة اعتقال هيئة تحرير جريدة “البشير” التركمانية
حبيب الهرمزي
يقول الكاتب سمير عطا الله في مقال له بعنوان ” مدن الصيف … محبرة وطوابع بريد” في زاويته عن خواطره التي ينشرها تباعا في جريدة “الشرق الأوسط”انها مجرد خواطر من ماض كان من ابرز معالمه السفر والتنقّل والترحّل…، كل ما مضى لا يستعاد ولا يعاد، لكنه يعود عند غيرك. العمر موزّع على الجميع لا توقفه ولا تحتكره، وتبقى لك ذكرى المحطات في قطارات هذه القارات وطائراتها”.
تطرقت في الحلقة السابقة من هذه المذكرات الى قدوم قائد الفرقة الثانية داود الجنابي الى كركوك واستقباله استقبالا حافلا من قبل الشيوعيين واعضاء وانصار الحزب الشيوعي، واوضحت صدور اوامر باعتقال هيئة تحرير جريدة “البشير” . والواقع ان الجماهير التركمانية كانت في قلق شديد منذ رحيل قائد الفرقة الشهيد ناظم الطبقجلي عن كركوك بسبب انه كان يقف سدا امام اطماع الشيوعيين ومناصريهم في الاستحواذ على مقاليد الأمور وبالتالي على مصير مدينة كركوك. وكانت الأوضاع تتطور تطورا خطيرا في غير صالح التركمان الذين لم يكونوا يجدون احدا يمكن ان يدّعي بسيادته في كركوك غيرهم. فقد سبقت ذلك أحداث خطيرة كانت مؤشّرا على هذا التحوّل وهي التي تطرقنا اليها في الحلقات السابقة من هذه المذكرات، وذلك بعد فترة ركود وسلام في المدينة منذ ابعاد واعتقال مناضلين تركمان سواء في الثلاثينات من القرن الماضي او بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها في عام 1945 وبعد مجزرة كاوور باغي عام 1946 في كركوك. ولذا فان الجماهير التركمانية لم تكن تدري او تعي حجم المؤامرة التي خططت لإذلالها وتهميشها والقضاء على تراثها ومثقفيها والعاملين منهم في سبيلها والاستيلاء على اراضيها، وهي المؤامرة التي ابتدأت بسيل من قرارات الابعاد والاعتقال وانتهت بارتكاب تلك الفئات مجزرة كركوك الرهيبة عشية الذكرى الأولى لقيام ثورة 1958 (14 تموز/ يوليو 1959). وقد نفّذت تلك الجهات القسم الأول من المؤامرة بعد ان استقوت بتسنّم قائد الفرقة الجديد مهام عمله مستفيدة من احداث ثورة عبد الوهاب الشواف في الموصل، اذ تم استصدار اوامر اعتقال وإبعاد المئات من التركمان وعلى دفعات. وكانت اول دفعة من الذين تقرر ابعادهم عن كركوك مؤلفة من خمسة اشخاص هم : المحامي محمد الحاج عزت، المحامي حبيب الهرمزي، رئيس البلدية المحامي نورالدين الواعظ ، الحاج هادي آوجي، الصيدلي مجيد حسن. وتبع ذلك اعتقال الاستاذ عطا ترزي باشي وثم ابعاده الى مدينة الحلة كما اتذكر، واعتقال العشرات بل والمئات من رجالات التركمان الآخرين. فقد تم اعتقال اول وجبة وايداعهم موقف مديرية شرطة كركوك، فيما تم نقلهم بعد ذلك الى مدرسة الصناعة بكركوك، واحتجازهم في الصفوف الدراسية في تلك المدرسة. وكان من بينهم انور عبد الله (المحاسب في مديرية طابو كركوك ووالد الكاتب التركماني محمود اوغور) وسليمان امين القابلي (ابن امين القابلي اول كاتب عدل في كركوك في عهد دولة العراق) والسيد صدر الدين (المعلم في مدرسة الشرقية الابتدائية) وتلى ذلك ابعاد العديد من رجالات التركمان اذكر منهم ابراهيم اغا بيرقدار والاستاذ فاتح مصطفى والاسطة بهاء الدين وهاشم احمد ناظم وكثيرين غيرهم.
وقد ذكرت في الحلقة السابقة كيفية استدعائي الى مديرية الشرطة بكركوك وتفهيمي بقرار الحاكم العسكري العام القاضي بابعادي واخضاعي الى الإقامة الاجبارية في قضاء الشطرة التابع لمحافظة الناصرية، واواصل هنا سرد الأحداث التي تلت ذلك.
طلب معاون مدير شرطة كركوك احد مساعديه واوعز اليه بتخصيص مكان مستقل لي وعدم زجّي في غرفة التوقيف الرهيبة التي كنت اعرف كمحام من هم “ساكنوها” من اللصوص والقتلة والمجرمين والمهرّبين وغيرهم. أخذني افراد من الشرطة الى مخزن داخل بناية المديرية يستعمل لحفظ الأثاث والمواد المستعملة من كراسي ومناضد متهرّئة ومراوح ودرّاجات عاطلة عن العمل، وقام بعض الشرطة بإخلاء حوالي مترين مربعين في مدخل المخزن وتم كنس هذه الفسحة وتنظيفها. وهكذا نمت ليلتي بين الكراسي والمراوح والدراجات على الفراش الذي اتى به بعضهم مع شنطة ملابس وبعض النقود من المنزل.
في وقت مبكّر من صباح اليوم التالي الموافق الاربعاء 18 مارس 1959 اصطحبني شرطيان مسلّحان ببندقيتين الى محطة قطار كركوك وركبنا عربة يجرّها حصانان الى المحطة، حيث اركباني الدرجة الثالثة من القطار المغادر الى بغداد التي وصلناها بعد مغيب شمس ذلك اليوم، وتوجهنا نحن الثلاثة – انا والشرطيان – بسيارة اجرة الى مديرية شرطة بغداد الواقعة قرب منطقة الميدان في شارع الرشيد وعلى بعد حوالي مائة متر من سوق السراي وشارع المتنبي المعروفين. وقام الشرطيان بتسليمي الى ادارة شرطة مديرية بغداد حيث مثلت امام مدير الشرطة الذي سألني عن اسمي ومهنتي ومن اين قدمت، وأمر الحراس بايداعي الى الموقف. غير انني ما ان وصلت الى الباب حتى صاح المدير بالحرس قائلا : خذوه الى الموقف رقم 2، ولم أفهم سبب هذا الأمر انذاك بالطبع،غير انني عرفت فيما بعد ان الموقف رقم 2 مخصص للمعتقلين السياسيين في حين ان الموقف رقم (1) مخصص للمتهمين بجرائم عادية مثل القتل او السرقة او النصب والاحتيال او تجارة المخدّرات. وفتح الشرطي باب الموقف رقم 2 ودفع بي الى الداخل واغلق الباب ورائي.
قد يبدو الأمر عاديا بالنسبة للقارئ الكريم بعد ان تعرّض الالاف من الشباب الى الاعتقال والسجن والتعذيب والإعدام خلال السنوات الطويلة التي عاشوها في العراق سواء في عهد النظام البعثي او قبله او حتى بعده، غير ان ذلك لم يكن مألوفا في الفترة التي اتحدث عنها. لم يكن بوسع احد انذاك ان يتصوّر ان محاميا وصحفيا في مقتبل عمره يتم زجّه في السجن دون ان توجّه اليه اية تهمة! لقد كان ذلك شيئا ثقيلا جدا انذاك!
وضعت الشنطة التي في يدي على الأرض واستندت على الجدار وبدأت أتأمل قاعة التوقيف التي تم زجّي فيها. قاعة واسعة ذات ضوء خافت يزيد دخان السكاير من تعتيمه، جو خانق بسبب الدخان وبسبب انفاس 64 شخصا قابعين في هذه القاعة من مختلف المدن والمهن والاعمار والافكار والعقائد، يجمعهم شئ واحد هو كونهم يعادون الشيوعية او لا يناصرونها في الاقل. كانت اول مفاجأة لي وانا واقف لا حول لي ولا قوة ولا اعرف مصيري وما ستخبّؤه لي من ايام، وتمثلت المفاجأة في صوت يأتي من نهاية القاعة، صوت يصرخ قائلا : “مرحبا بك يا حبيب، ما الذي أتى بك الى هنا”! وكانت حقا مفاجأة بالنسبة لي. ترى من الذي يعرفني من بين الـ 64 شخصا من المعتقلين ها هنا، الجالسين على ارضية القاعة يلهون انفسهم بممارسة لعبة المحيبس (اخفاء الخاتم)، وهي لعبة تشبه لعبة “صيني ظرف” التركمانية التي يلعبها التركمان في المقاهي وغيرها في ليالي رمضان على وجه الخصوص. وتقدّم اليّ صاحب الصوت مسرعا واذا بي امام زميلي في كلية القانون “حسين الصافي النجفي”[2].
لعل بعض القراء يتذكّرون المرحوم السيد “اسماعيل حقي” الذي كان يدير فندقا بإسم “فندق كركوك” يقع في الدور العلوي من مقهى الزهاوي الكائن على شارع الرشيد ببغداد. كان “اسماعيل حقي” يهتم كثيرا بقضايا التركمان ويحاول المساهمة في حل مشاكلهم. ولا ادري كيف سمع بوجودي في هذا الموقف، اذ انني سرعان ما رأيته من نافذة القاعة وهو واقف تحت رذاذ المطر وهو يحاول ان يدخل بعض الفراش لي الى القاعة. غير ان المشكلة كانت عدم وجود مكان على ارضية القاعة لهذا الفراش، لأن القاعة كانت مكتظة ولا وجود لشبر واحد خال فيها. واضطر اسماعيل حقي لحمل الفراش واعادته الى فندقه، ولم أجد انا بدا من ان اشارك زميلي حسين الصافي فراشه خلال اربع ليالي قضيتها في ذلك الموقف!
جنّ جنون حسين الصافي حينما سمع مني أمر صدور قرار ابعادي واخضاعي للإقامة الإجبارية في قضاء الشطرة الواقع على مبعدة 40 كيلومترا شمال مدينة الناصرية، وقال لي بالحرف الواحد “عليك ان تعمل كل ما في وسعك من أجل عدم الذهاب الى الشطرة ان كنت تريد ان تبقى على قيد الحياة، لأنك سوف لا تعيش هنالك اكثر من عشرة دقائق، سيقتلونك ويسحلونك بالحبال فور وصولك الى محطة قطار قضاء الشطرة المعروف بوجود اكثر الشيوعيين تطرفا وغلوّا فيه، انك مبعد وذلك يعني انك متآمر وخائن للدولة والجمهورية ويجب القضاء عليك فورا في نظر اولئك الغوغاء.” على ان حسين الصافي حاول تهدئتي قائلا انه سيجد لي حلا يجنّبني الذهاب الى الشطرة، وكان ذلك اول غيث يغمرني متمثلا في قدرةالله عزّ وجلّ على اغاثة عبده العاجز.
نمت تلك الليلة وانا مهموم ومتعب وجائع وقلق على مصيري وحياتي. وفي صباح اول يوم من وجودي في هذا المعتقل فتح باب القاعة ودخل رجلان يحملان لنا الفطور المكوّن من صمّونة (خبز) واحدة وقطعة من الزبدة ذات الغلاف الاصفر المشهور انذاك. وبعد وجبة الافطار بقليل، فتح باب القاعة مرة ثانية ودخل القاعة ضابط شرطة بدرجة معاون مدير شرطة بملابسه الرسمية ويحيط به عدد من رجال الشرطة والمساعدين، وبدأ هذا الرجل بقراءة اسماء من القائمة الموجودة في يده، وكان يطلب من كل شخص ينادي عليه ان يخرج الى خارج القاعة لغرض التحقيق معه وتدوين افادته امام محقق الشرطة. وكم كان عجبي عندما نادى الرجل على اسمي وطلب مني الخروج بفضاضة وبلهجة قاسية وآمرة. ولحقت بركب معاون الشرطة ورهطه في ممشى ضيّق لم اكن ادري الى اين يفضي بي. غير ان المفاجأة الكبيرة كانت عندما استدار هذا “المعاون” نحو ليصافحني بحرارة ويرحّب بي قائلا “اهلا بك يا استاذ حبيب، كيف حالك”! واخذني بعد ذلك الى مكتبه الرسمي. وهناك عرّف نفسه فعلمت ان اسمه “اسماعيل رشيد” وانه تركماني من مدينة كركوك، وانه علم بمقدمي من القوائم التي ترد اليه يوميا، وان مخاطبته لي بفضاضة كان تدبيرا احترازيا منه في هذا الظرف غير الطبيعي. وتكررت زيارة هذا الرجل الشهم الى قاعة التوقيف صباح كل يوم من الايام الاربعة التي كنت ضيفا فيها لديهم، وكان يحشر اسمي بين المطلوبين للتحقيق ثم يأخذني الى مكتبه حيث يؤدّي لي واجب الضيافة من مأكل ومشرب.
قال لي “حسين الصافي النجفي” : انهم سيأخذونك الى مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار حاليا) اولا تمهيدا لتسفيرك الى قضاء الشطرة، وعليك ان تعمل المستحيل لتقابل معاون المتصرف (معاون المحافظ) الذي اسمه “ناجي عيسى الخلف” وتبلّغه سلامي وتطلب منه العمل على ابقائك في الناصرية.
في اليوم الرابع استدعاني المعاون اسماعيل الى مكتبه، وهناك نادى على رئيس العرفاء لديه، ولا زلت اذكر اسمه: لعيبي مكلف، وطلب منه ان يذهب الى داره ويستبدل ملابسه العسكرية بملابس مدنية وان يحمل مسدسه معه وان يصاحبني الى الناصرية حيث تقرر تسفري الى هناك مساء ذلك اليوم. وكان كل هذه التدابير من هذا الرجل الشهم لغرض اخفاء كوني مبعدا وبتعبير آخر “متآمرا وعدوا للجمهورية وللزعيم” وبالتالي انقاذ حياتي من موت أكيد بشع.
في مساء ذلك اليوم خرجت بصحبة رئيس العرفاء من بناية المديرية لنتوجّه الى محطة القطارتمهيدا للسفر الى الناصرية. غير اني ما ان خطوت بضع خطوات خارج بناية المديرية، واذا بشاب اكبر مني قليلا في العمر لم يسبق لي ان رأيته او تعرّفت عليه يتقدّم لمصافحتي والسؤال عن صحتي وعارضا عليّ باللهجة التركمانية ان يأخذني بسيارته الخاصة الى محطة القطار، ولم يكن هذا الشخص غير المرحوم “نجم الدين عز الدين” الشاب التركماني الشهم الذي شاءت الأقدار ان نعمل معا ضمن الهيئة الادارية لنادي الأخاء التركماني عام 1961 اي بعد سنتين من هذا اللقاء الغريب وما تلاه من اعوام.
وصلنا الى الناصرية فجر اليوم التالي، انتظرنا انا وحارسي رئيس العرفاء لعيبي مكلف بعض الوقت كي ينبلج الصبح واجرّب حظي في اللقاء مع معاون المتصرف (معاون المحافظ) ناجي عيسى الخلف[3]. ادخلني صبي حين دققت جرس الدار الى غرفة الجلوس بعد ان اوضحت له طلبي بمقابلة صاحب الدارالذي جاءني بعد عدة دقائق ورحّب بي دون ان يعرفني طبعا وسألني عن مطلبي، فنقلت له تحيات حسين الصافي النجفي واوضحت له انني قادم من كركوك كمبعد الى قضاء الشطرة، وطلبت منه مساعدتي في تدبير امر بقائي في الناصرية بدلا من الشطرة حفظا على حياتي. وعدني مضيّفي خيرا وطلب مني ان اذهب الى سراي الحكومة وان انتظر هناك لحين قدومه ودخوله غرفة المتصرّف (المحافظ)، وان اطلب بعد ذلك مقابلة المحافظ، وهكذا كان. وعندما دخلت غرفة المحافظ “عبد المطلب امين”[4] فوجئت عندما قام ناجي عيسى الخلف لإستقبالي وصافحني بحرارة وسألني عن سبب وجودي في الناصرية وكأنه لم يكن هوالرجل الذي استقبلني واكرم وفادتي في داره صباح نفس اليوم! وقام بتقديمي الى المحافظ على انني صديق قديم له. ولعله تصنّع كل ذلك بسبب خطورة الاوضاع وانتفاء الثقة بين الكل وخشية المرء حتى من اخيه. رحّب المحافظ بي وسألني عن حاجتي، ولما اوضحت الموقف له باختصار، طلب مني ان اقدّم طلبا (عريضة) لطلب بقائي في الناصرية. وانتظرت في غرفة معاون مدير الشرطة بعد ان انهى رئيس العرفاء واجبه بتسليمي الى ادارة الشرطة، وقيامي بواجب شكره على مساعدته لي واعطائه اجرة العودة الى بغداد.
جاءني الخبر المفرح عصرا من معاون مدير الشرطة الذي اخبرني بورود برقية من الحاكم العسكري العام (احمد صالح العبدي) تتضمن الموافقة على بقائي في الناصرية بدلا من تسفيري الى الشطرة. وطلب هذا المعاون الطيّب الذي لا اذكر اسمه للأسف ان اصحبه الى مكتبه الواقع مقابل غرفة مدير شرطة المحافظة مباشرة، وادخلني الى غرفته قائلا: “انني في اجازة اعتيادية اعتبارا من يوم غد وان بوسعك ان تقيم في هذه الغرفة بسبب خطورة الوضع في الناصرية، اذ ان المد الشيوعي على أشدّه هنا”. واردف قائلا : ” لا انصحك بالإقامة في اي فندق حتى وان كان قريبا من مديرية الشرطة، لأننا وبصراحة لا نستطيع ان نحميك من اعتداء الشيوعيين عليك عندما يعلمون بكونك مبعدا وتحت الاقامة الاجبارية”. واضطررت بذلك الى الاقامة في غرفة معاون مدير الشرطة. وقبعت جالسا لا استطيع الخروج من الغرفة وانا اتضور جوعا.
وجاءتني عناية الله عز وجل بغتة حينما سمعت طرقات خفيفة على الباب. ولم يكن لي من بدّ الا ان افتح الباب وليكن ما يكون، غير اني واجهت شابا بملابس عربية ويلبس الغترة والعقال يسلّم عليّ ويسألني هل احتاج شيئا، وحينما قلت له من انت؟ اجابني قائلا: هذا لا يهم، هل تريد شيئا؟ فاجبته انني جائع جدا، فطلب مني ربع دينار (250 فلس بالعملة العراقية)، وانصرف الرجل بعد ان ناولته هذا المبلغ دون ان اعلم مدى صدقه في ادعائه، غير انه كان صادقا فعلا في تصرفه، ذلك انه كان مرسلا من قبل شخص لم اكن صرية الرجل التركماني الشهم السيد بهاء الدين (الملقب بهاء الدين علي بامبوغ)!
نمعلى علم به لمساعدتي في محنتي، ولم يكن هذا الشخص غير مفوض الأمن في مديرية أمن محافظة النات تلك الليلة بين مشاعر مختلفة مزيجة من الخوف والغضب والارهاق، تتخلّلها اصوات المستغيثين الذين كان يجري تعذيبهم في موقف الشرطة الذي كان يبعد عن مكاني ببضع عشرات من الأمتار. واستيقظت صباح اليوم التالي على طرقات على الباب، واذا بشرطي يدعوني الى المثول امام مسؤول الأمن في غرفته الكائنة في نفس الطابق من البناية حيث تحقّق اول تعارف لي مع مفوض الأمن التركماني “بهاء الدين علي بامبوغ”.
كانت الغرفة الصغيرة التي ادخلوني اليها غاصة بالمراجعين ورجال الشرطة، وكانت هنالك ثلاثة مكاتب يجلس وراءها ثلاثة من رجال الأمن بملابسهم المدنية، ولم اكن اعلم طبعا سبب استقدامي الى هذا المكان، واجلسني احد مفوضي الأمن على كرسي في مقابله، وانشغل الجميع بأمور المراجعين. ومرت ساعة كاملة قبل ان يأمر المفوض الشاب الشرطي الواقف على الباب باغلاق الباب وعدم السماح لأي شخص بدخول الغرفة. ولشدة عجبي خاطبني قائلا: “اهلا بك في الناصرية يا استاذ حبيب، انني اعرفك غيابيا واردت التعرّف عليك ومعرفة احتياجاتك”. وقد نزل عليّ كلامه هذا بردا وسلاما، في وقت كنت في أشد الحاجة فيه الى اي شئ يرفع من حالتي المعنوية. وعلمت من هذا الرجل الشهم انه من اهالي محلة المصلى بكركوك وانه يعمل في الناصرية منذ عدة سنوات. وانتهت هذه المقابلة بعد ان جعلني أتعرّف على زملائه في الغرفة وبعد اكلة “كباب” شهية شاركت فيها معه ومع زملائه.
بدأ الرجل الذي يلبس العقال والغترة يأتيني بالغذاء كل يوم من احد مطاعم الناصرية. وعرض عليّ في اليوم الثاني ان يأتيني براديو ترانسستور لقاء اجرة قدرها دينار واحد، وفعلا جلب لي الراديو الذي استفدت منه كثيرا للاستماع الى اخبار الأوضاع في العراق من راديو “العراق الحر” المعارض للنظام القائم في العراق، اذ كنت استمع الى الراديو بوضعه قرب اذني حذرا من سماع احد له، وذلك قرب منتصف الليل بين آهات المعتقلين الذين كان يجري تعذيبهم في الهزيع الأخير من كل ليلة في الموقف القريب. وكنت في امسيات كل يوم اخرج من “غرفتي” واتمشّى بعضا في الشارع الرئيسي، ولاحظت انذاك بان شخصا يتبعني كظلي، ولما تكرر الخروج والمتابعة ذهبت الى مكان غير مطروق واذا بهذا الرجل يقترب مني ويعلمني انه من رجال الأمن وانه مكلّف بمراقبتي. وتكررت محادثاتنا في الأيام التالية، فقلت له: تعال نتفق معك على موعد لمراقبتي، انني اخرج ظهر كل يوم للغذاء في مطعم قريب ثم لا اخرج الا بعد الساعة السادسة مساء لشدة الحر، فارجو ان تذهب الى بيتك لترتاح وتأتيني لمراقبتي في المواعيد المذكورة فقط، ووثق الرجل بي وشكرني، واستمر بمتابعتي في المواعيد المذكورة!
استمر الوضع على هذا النحو قرابة عشرة ايام، فوجئت بعدها بقدوم اول “مبعد” تركماني الى الناصرية بعدي، وهو الدكتور جمال مصطفى طبيب الأطفال، ولما التقينا اقترح ان نستأجر معا دارا للسكنى بدل الاقامة في مركز الشرطة، ووافقت على ذلك اذ كانت الاوضاع بدأت بالتحسن وبالهدوء يسيطر على الموقف شيئا فشيئا.
استأجرنا دارا تحتوي على ثلاث غرف وصالة صغيرة تقع في نهاية زقاق غير نافذ بأحدى المحلات القريبة من السوق ومن بناية سراي الحكومة، وكان من بين الوافدين الى الناصرية المفروضة عليهم الإقامة الإجبارية فيها رجل في اواسط العمر، أمّي لا يعرف القراءة والكتابة، كان يعمل حلاقا في صوب المصلّى بكركوك اسمه “الأسطى طه”، وكانت تهمته كونه من حاشية المرحوم الشهيد عطا خير الله. ولما وجدناه حائرا لا يملك مكانا يأوي اليه ولا قدرة مالية له على مواجهة تكاليف الحياة، قررنا ان يسكن معنا في الدار المستأجرة دون مقابل. وكان اسطى طه رجلا دمث الخلق يهرع الى تلبية مطاليب الدار من تنظيف وشراء للحاجيات. لم يكن يعلم السبب في اخضاعه للأقامة الإجبارية في الناصرية ولم يكن يعرف التكلم باللغة العربية الا القليل. ولما سألته عن سبب اعتقاله وابعاده اجابني انه لا يعرف لذلك سببا واضاف: “انهم اتهموني بانني متخامر”! وعرفت بعد لأي انه يعني اتهامه بكونه “متآمرا”، ولم يكن هذا الرجل البسيط يفقه حتى معنى كلمة “المتآمر” التي الصقت به!
كانت نهاية الزقاق غير النافذ تضم بيتين، احدهما البيت الذي استأجرناه والثاني كان مقرا ل- ” إتحاد العمال” الذي كان احد اهم معاقل الشيوعية! غير ان الجيرة كان لها تأثيرها، فقد بدأوا بالقاء التحية علينا وبتجاذب اطراف الحديث معنا رغم علمهم الأكيد بكوننا ثلاثة من “المتآمرين على الجمهورية وزعيمها الأوحد”. وتطورت علاقات الجوار الى زيارة اعضاء الهيئة الادارية للإتحاد الى دارنا بل وبمشاركتهم في العاب “الكونكان” التي كنا نمارسها لقتل الوقت ليس الا، ولكن مع من؟ انا والدكتور جمال مصطفى، ومفوض الأمن بهاء الدين بامبوغ ومعاون الأمن الذي نسيت اسمه ورئيس عرفاء الوحدة في فوج الناصرية، اضافة الى رئيس اتحاد العمال! كانت هذة “الشلّة” تزورنا مساء كل يوم، وتوطّدت علاقتنا أكثر بمعاون الأمن بعد ان جلب الدكتور جمال سيارته الخاصة الى الناصرية، اذ كان معاون الأمن يستعير السيارة بين حين وآخر ليقضي بها بعض المشاوير او للتنزّه مع اطفاله.
بعد اسبوعين من اقامتنا في الدار المستأجرة، قرر الدكتور جمال ممارسة مهنته كطبيب اطفال، فتم تحويل احدى غرف الدار الى عيادة للأطفال وتم تجهيزها بمكتب ومنضدة للفحص، وكلّفنا احد الخطاطين بإعداد لوحة تحمل اسم “الدكتور جمال مصطفى – اخصائي امراض الأطفال”، وقمنا بتعليق اللوحة في اعلى باب الدار، وبلغ بنا التعب اقصاه، ولما كان ما نملكه انا والدكتور جمال من نقود قد اوشك على النفاذ في هذه الفترة، ولم تكن المعونة المالية قد وصلتنا من الأهل بكركوك، فقد فضلنا النوم بدل الذهاب الى المطعم! وما هي الاّ ساعة واحدة واذا بي استيقظ من النوم على صوت طرق عنيف على الباب، ولما فتحت الباب وجدت امامي امراة في اواسط عمرها تحمل طفلا صغيرا في حضنها ومعها أمراة اخرى ترافقها، واعلمتني الأمراة بان الطفل يعاني من ألم شديد وانها ترغب في فحصه ومعالجته من قبل الدكتور. وادخلتهما الى غرفة العيادة وانا في أشد العجب من سرعة انتقال خبر افتتاح العيادة الى المرضى، وبدأت بايقاظ الدكتور جمال قائلا له : قم فهناك مريض ينتظرك في العيادة، ولم يصدّق جمال بالخبر وحسبني اداعبه، غير انه لما تحقق من هذه “المعجزة” قام وشرع بفحص الطفل وبكتابة الادوية اللازمة لحالته، والأهم من ذلك انه قبض اجرة الفحص البالغة نصف دينار بالتمام والكمال! وما ان غادرت المرأتان والطفل الدار حتى صاح بنا جمال: “هيا بنا الى نادي الموظفين لنتناول اكلة كباب لذيذة على حسابي هناك”! وهكذا كان!
بعد مرور بضعة ايام توافد على الناصرية عدد كبير من المبعدين من التركمان والأكراد، وكان بينهم اغوات اكراد متنفذين في عشائرهم، واذكر “قدوم” المرحوم يونس النقيب (والد زوجة المرحوم الشهيد عطا خير الله)، حتى فاق عدد المبعدين الثمانين شخصا. وحيث انني كنت اول من تم ابعاده الى الناصرية، فقد اطلقوا عليّ لقب “نقيب المبعدين”! وكنت في تلك الفترة قد زرت المتصرّف (المحافظ) عبد المطلب الأمين لتقديم الشكر له لمساعدتي في أمر بقائي في الناصرية، واكرم هذا الرجل وفادتي واستقبلني استقبالا حارا ، وتكررت زياراتي له حيث وعدني في احداها بان يجلب لي من داره كتبا لمطالعتها، غير انه لم يستطع تنفيذ وعده لخشيته من جواسيس الحزب الشيوعي، فكيف يجلب المتصرف كتبا لمتآمر (وهو الوصف الذي كان يطلقه الشيوعيون على كل مبعد بل على كل من لا يسير وفق خطاهم). كان الخوف والهلع مسيطرين على الجميع في هذا الجو المشبع بالرعب الذي ساد جميع الفئات، حتى ان الاستاذ “خورشيد كاظم” الذي كان يعمل مفتشا للمعارف في الناصرية انذاك[5] حاول ان يرسل لي فراشا الى مركز الشرطة عندما علم بمقدمي، غير ان جواسيس الشيوعيين من زملائه وطلبته علموا بنيّته فهددوه قائلين “انك رجل طيب ومخلص للجمهورية فكيف ترسل فراشا لمتآمر على الجمهورية وزعيمها. وحكي لي استاذي المرحوم هذا الحادث شخصيا وبأنه جلس على الفراش المكوّم في صالون داره واستغرق في البكاء ساعات عديدة على الحال الذي وصل اليه الشعب العراقي وعلى رأسه الشعب التركماني في العراق!
بلغ بنا اليأس والضجر قمته، لم يكن من المستحب الجلوس في اية مقهى خشية من اتهامنا بالاتصال بأي شخص، لم تكن هناك مكتبة عامة نستطيع ان نقضي وقتا فيها بمطالعة اي كتاب، ولم يكن هناك من شارع مبلط، نظيف ومشجّر يمكن ان نتمشى فيه بحرية، فقد كانت مدينة الناصرية آنذاك متخلفة كثيرا من الناحية العمرانية، ولم يكن فيها غير شارع رئيسي واحد مكتظ بالسيارات وعربات اليد والباعة المتجولين، ولم يكن هناك منتزه او شارع فسيح يمكن ممارسة المشي فيه، ولذا فان وسيلة تسليتنا الوحيدة كانت الذهاب الى حيث الجسر الحديدي الجديد القائم على نهرالفرات والتمشي في رصيفه جيئة وذهابا حوالي عشرين مرة في كل أمسية، وكان الدكتور جمال يردّد عند كل استدارة لنا في نهاية الجسر عبارة معناها “اننا أفّاقون”[6]!
صدر امر وزاري من وزارة الصحة بنقل الدكتور جمال مصطفى الى مستشفى الناصرية، وهكذا حمل الدكتور جمال صفتين: أولهما طبيب في المستشفى كموظف حكومي محترم، والثانية كشخص خاضع للإقامة الإجبارية باعتباره متآمرا وخطرا على الجمهورية وزعيمها الأوحد عبد الكريم قاسم! فكان يبادر بالذهاب صباح كل يوم الى مركز الشرطة للتوقيع على السجل الخاص بالمبعدين، ويفعل نفس الشئ مساء (لإثبات كونه يقيم في المدينة وانه غير فار من وجه العدالة)، وفي نفس الوقت كان يتولى الخفارة في بعض ليالي الأسبوع فيأتي اليه رجال الشرطة والعرفاء ويؤدّون له التحية العسكرية ويسلّمون اليه تقارير الشرطة المتعلقة بالمستشفى! ولم يكن حالنا نحن المبعدين جميعا يختلف عن حال الدكتور جمال في خضوعنا لتوقيع السجل الخاص بالمبعدين في مركز الشرطة مرتين كل يوم…
لم يتوان مفوض الأمن الشهم بهاء الدين بامبوغ من بسط حمايته علينا، وكان لتردده في امسيات اغلب الأيام الى دارنا اثره في زيارة معاون الأمن ورئيس عرفاء وحدة الناصرية وعدد من الموظفين الى دارنا حيث كانت تعقد جلسة لعب الكونكان يكون من نصيب الخاسر فيها شراء بعض الحلوى او البقلاوة ليتناولها الضيوف جميعا. وتوطّدت علاقتنا بجارتنا نقابة العمال واعني المسؤولين فيه، وبدأ اعضاء النقابة بزيارة “جيرانهم المتآمرين” ومساعدتهم في تمشية بعض الأمور، حتى انهم لم يتوانوا عن ربط السرائر التي اشتريناها المصنوعة من سعف النخيل بالحبال ورفعها الى سطح دارنا من الزقاق، حيث كنا ننام في الليالي هنالك على طريقة العراقيين !
كان السيد بهاء الدين يمتاز بشجاعة نادرة جعلته موضع احترام ومحبة الجميع. واذكر انه كان له موقف بطولي قلّ ان يكون له مثيل خاصة في تلك الأيام الحرجة التي كان الشيوعيون فيها قد سيطروا على مقاليد الأمور في العراق بأجمعه. حدث في تلك الفترة ان صدر أمر من وزارة الدفاع – او لعله من الحاكم العسكري العام – بإحالة قائد القوة المرابطة في الناصرية على التقاعد، فحزم الرجل امتعته واستعدّ للعودة الى بغداد. وصل الخبر الى الجماعات الشيوعية، فتجمهر مئات من الغوغاء امام مدخل محطة القطار انتظارا لقدوم هذا القائد المتقاعد للفتك به وبعائلته، متذرعين بمقولة انه طالما احيل الرجل على التقاعد فانه خائن ومتآمر على الجمهورية وزعيمها الأوحد عبد الكريم قاسم، ولا بد من القضاء على هذا الخائن قبل ان يفلت بجلده. ولما وصل الرجل الى المحطة احاط الأوباش به وبعائلته مرددين هتافات التنديد بالخونة، واوشكت العائلة كلها على الهلاك المحتّم بيد “المناضلين” لولا الوقفة الجريئة لإخينا بهاء الدين بامبوغ الذى شهر مسدّسه ووقف يتحدى الجموع الثائرة بمفرده محذّرا اياهم من المساس بهذه العائلة البريئة، فاستكانت الجموع أمام بطولة وشجاعة الرجل الذي تمكّن من ايصال العائلة الى داخل المحطة ويسّر لها ركوب القطار ومغادرة المدينة بسلام!
حلّ عيد الفطر ونحن لا زلنا بعيدين عن أهلنا نتجرّع مرارة “الأسر داخل الوطن”، وعلمت فيما بعد ان العيد كان مؤلما جدا بالنسبة لأهل “المبعدين”، وحكى لي الأهل ان آلاف الأمهات والآباء والأولاد والبنات امضوا صباح العيد بين بكاء وحزن وألم وهم يستمعون الى القسم التركماني من راديو بغداد وهو يذيع اغنية حزينة للمطرب التركماني الشهير “عبد الواحد كوزه جي اوغلو” ترجمتها” كنا ثلاثة اشقاء وأم، التجأنا الى مأوى، فجعلتنا الأقدار نتفرّق كل الى مكان منعزل”[7] ، وكان تفسير العوائل لمغزى اذاعة هذه الأغنية الحزينة في صباح اول ايام العيد هو الأشارة الى “الأشقاء الثلاثة” عطا ترزي باشي ومحمد الحاج عزت وحبيب الهرمزي اصحاب جريدة “البشير” الذين جرى ابعاد كل واحد منهم الى مكان مختلف في جنوب العراق[8].
ضاقت بنا الأيام ونحن لا ندري متى الفرج من هذه المحنة التي وقعنا فيها دونما ذنب او جريرة. وخطر لي في احد الأيام ان اهرب من المدينة متوجها الى الصحراء الشاسعة غرب الناصرية لعلي أصل الى حدود المملكة العربية السعودية. كانت مغامرة خطيرة فكرت في تنفيذها اياما وليالي عديدة، وادى الشعور بالظلم واليأس من الخلاص الى ازدياد فكرة المضي في هذه المغامرة مهما كانت نتائجها. على انني استقر بي الأمر على مفاتحة اخينا بهاء الدين بامبوغ، فهو يستطيع ان يقدّر عواقب هذة المغامرة بحكم عمله احسن تقدير. ولما فاتحته بالأمر حذّرني من الإقدام على مغامرة اكيدة الفشل كهذه، محذّرا اياي من ان مخارج المدينة والطرق الصحراوية اضافة الى مناطق الحدود السعودية تحت حراسة ورقابة دائمة، وانني حتى لو امكنني الافلات من قوات الجيش والأمن العراقية، فانني سأقع فريسة سهلة بيد البدو العائشين في الصحراء، وهكذا وأدت الفكرة الكامنة في داخلي دونما تنفيذ، وانقذني بهاء الدين بامبوغ من موت محقق في الصحراء الشاسعة!
في اوائل شهر حزيران/ يونيو من نفس العام سرت اشاعة تفيد انه سيصدر عفو عام من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم عن المعتقلين والمبعدين، وكانت فرحتنا شديدة بهذا الخبر السار بعد ان كنا قد يأسنا من العودة الى ديارنا واهلنا وعوائلنا. وقد تحققت الشائعات فعلا، ففي صباح يوم العشرين من حزيران/ يونيو من نفس العام ابلغتنا مديرية الشرطة بصدور قرار الحاكم العسكري العام القاضي باصدار عفو عام عن جميع المبعدين والمعتقلين والسماح لهم بالعودة الى مدنهم. وفي اليوم التالي تمت اجراءات العودة في مديرية الشرطة حيث طلب المسؤول من الجميع التوقيع على إقرار وجدنا عند قرءاته انه يتضمن استلامنا مبالغ مخصصات الإقامة في المنفى خلال الأشهر التي قضيناها هناك، وقد وقعنا عليها جميعا وطبعا من دون ان نستلم فلسا واحدا من تلك المخصصات! فقد كان كل همنا ان نتخلص من هذا الوضع المأساوي في اسرع وقت.
رجعنا الى ديارنا مسرورين فرحين بالخلاص من هذه “الضيافة الإجبارية”! ، ولم نكن نعلم حينها ان الأقدار تخبّأ لنا اياما سوداء حالكة أثّرت على مجرى حياتي وحياة الكثيرين منا.
فبعد ثلاثة اسابيع بالضبط من عودتنا الى مدينة كركوك حدثت مجزرة كركوك الرهيبة (14 – 17 تموز/ يوليو 1959) التي سأحاول ان اسرد للقارئ الكريم ذكرياتي عنها من زاوية اخرى، هي ليست زاوية سرد الوقائع، وذلك في الحلقة القادمة بإذن الله.
* نشرت هذه الحلقة في مجلة الأخاء – قارداشلق التركمانية الصادرة ببغداد في العدد 297 – 298 – 299 – تموز/ يوليو- اغسطس – ايلول/ سبتمبر 2014
< !--[endif]-->
[1] – انظر الصفحة 28 من العدد 13030 من الجريدة الصادر في الأول من اغسطس لعام 2014.
[2] – كان حسين الصافي زميلي في كلية القانون، وهو ابن اخ الشاعر العراقي الكبير احمد الصافي النجفي. وقد عيّن في زمن حكومات البعث محافظا في الديوانية وثم وزيرا للعدل لفترة معينة.
[3] – كان ناجي عيسى الخلف معاونا للمحافظ في محافظة الناصرية آنذاك، وتم تعيينه محافظا للناصرية خلفا للمحافظ عبد المطلب امين في اغسطس من عام 1959 وعيّن محافظا لمحافظة كركوك فيما، بعد حيث باشر بوظيفته هناك في شهر تشرين الاول/ اكتوبر من عام 1962.
[4] – كان “عبد المطلب امين متصرفا – محافظا – في الناصرية، وتم نقله الى وظيفة محافظ السليمانية في شهر اغسطس من عام 1959.
[5] – المرحو خورشيد كاظم كان من اهالي كفري التركمانية وهو شقيق الكاتب والشاعر التركماني “رشيد كاظم”. وكان الاستاذ خورشيد كاظم احد اساتذتي في المرحلة المتوسطة والثانوية بكركوك، حيث كان يدرّسنا مادة الجغرافيا.
[6] – أصل هذه الجملة باللهجة التركمانية: ” ! Biz yetimçeyiğ “.
[7] – الأصل التركي لهذه الأغنية التركمانية هي كالآتي:
Biz üç kardaş idik, bir ana
Sıxılmıştığ bir xana
Felek bir tepme çaldı
Attı her birimizi bir yana
[8] – تم ابعاد عطا ترزي باشي الى الحلة وابعاد محمد الحاج عزت الى العمارة وحبيب الهرمزي الى قضاء الشطرة التابع الى محافظة الناصرية