صفحات مشرقة من تاريخ التركمان في العراق
عمر علي باشا
بطل معركة جنين بفلسطين
حبيب الهرمزي
ولد عمر علي بكر اغا عام 1910 في محلة بكلر بكركوك. وجده هو بكر اغا بن علي بيرقدار بن حسين بن عبد الله بن علي. ينتسب الى عائلة بيرقدار التركمانية المعروفة في كركوك. وتنتسب والدته السيدة سلطانة بنت محمد الى اسرة “آوجي” المعروفة في كركوك. وقد انظم والده الى صفوف المقاومة للوجود البريطاني في العراق، ووضعت السلطات البريطانية اسمه في لائحة المطلوبين، وحاولت القاء القبض عليه، غير انه تمكن من الإفلات والالتجاء الى قبائل الهماوند. أكمل عمر علي دراسته الابتدائية والثانوية في كركوك بتاريخ 1928، وتقدم للالتحاق بالمدرسة العسكرية للدراسة فيها، حيث اختير للدراسة ثلاثون طالبا من بين مائة وخمسين ممن اجتازوا الامتحان، وكان واحدا من الطلاب الثلاثين المختارين وانتظم في المدرسة العسكرية كأحد تلاميذ الدورة الخامسة، وعرف عنه آنذاك بالحرص على تعلّم العلوم العسكرية والالتزام بالضبط والنظام والتدريب العسكري، مما اثار اعجاب ضباطه وآمريه. تخرج في الكلية العسكرية ببغداد عام 1931 بتقدير امتياز وبرتبة ملازم ثان، وتم تنسيبه كآمر فصيل في الفوج الاول (موسى الكاظم). وفي عام 1933 منح “بطاقة الذكر الحميد” بناء على حسن خدماته في الحركات الموجهة ضد الآثوريين، وكافأته على جهوده هذه بإرساله في دورة تدريبية في أساليب الحروب الجبلية والتي أقيمت في الباكستان.
أكمل عمر علي دراسته في كلية الأركان – الدورة الخامسة – وتخرج فيها بدرجة – أ – وبالمرتبة الأولى على دورته في عام 1939 حيث تسلّم شهادة تخرجه من الامير عبد الاله الذي كان وصيا على عرش العراق آنذاك وبصفته الناجح الاول على الدورة من بين 19 ضابطا مشاركا فيها. أثبت عمر علي كفاءة نادرة في حركات شمالي العراق خلال النصف الاول من ثلاثينيات القرن الماضي، وعمل كمدرّس في مدرسة الاسلحة الخفيفة ونال بعدها رتبة رئيس (نقيب) وشارك في الحرب العراقية – البريطانية اعقاب حركة رشيد عالي الكيلاني في عام 1941. وتدرج في الوظائف العسكرية الى ان وصل الى رتبة لواء ركن. وفي عام 1952 تمت ترقيته الى رتبة زعيم ركن (عميد ركن) وعيّن على إثر ذلك آمرا للكلية العسكرية ببغداد ، حيث اثبت كفاءة عسكرية عالية في مجال تدريب التلاميذ، واسهمت جهوده في ادارة الكلية العسكرية في تطوير الكلية والارتقاء بها الى مصاف الكليات العسكرية العالمية ، واستمر في عمله هذا لغاية عام1954، حيث اختير لإشغال منصب متصرف (محافظ) السليمانية وكالة، وهو المنصب الذي استمر فيه لغاية عام 1957. وخلال خدمته في محافظة السليمانية رقّي الى رتبة امير لواء ركن (لواء ركن)، وتم تنسيبه قائدا للفرقة الأولى في الديوانية بتاريخ الرابع من حزيران/ يونيو لعام 1958 واستمر في هذا المنصب الى تاريخ نشوب ثورة 14 تموز 1958 التي حوكم في عهدها من قبل محكمة المهداوي (محكمة الشعب) بتهمة مقاومته للثورة وحكم عليه بالإعدام. ثم عفي عنه واطلق سراحه عام 1961 من قبل عبد الكريم قاسم.
وحول عمل عمر علي في محافظة السليمانية يقول ابنه “بارز” انه (عندما أصبح عمر علي متصرفا (محافظا) للواء (محافظة) السليمانية حدث ان زارها الملك فيصل الثاني في اسبوع الاعمار عام 1956 بهدف افتتاح ووضع حجر الاساس لبعض المشاريع في المحافظة. ورغم ان هذه المحافظة كانت شبه عاصية على الدولة، فان اهاليها خرجوا عن بكرة أبيهم لاستقبال الملك بشكل عفوي، ووفد كثير من المستقبلين من الاقضية والنواحي والقرى ولم يتوقع احد أن تكون هذه الاعداد الغفيرة في استقبال الملك، وكاد زمام الأمور أن يخرج من يد منظمي الزيارة، فان هذه المدينة كان يخشى فيها مدير المدرسة أن يضع صورة الملك والمدينة الوحيدة التي كان يخشى فيها أصحاب دور السينما أن يعزفوا السلام الملكي فيها قبل بداية العرض، وكان الحزب الشيوعي بالسليمانية أقوى تنظيم في العراق كله، وكان العلم الأحمر يرفع في شوارع السليمانية وفي ثانوية السليمانية. واستطاع عمر علي أن يغيّر كل الأوضاع في السليمانية طوال سنتين دون استعمال القوة والبطش، حيث كان أول أمر أصدره عمر علي بالسليمانية هو أن الشرطة ليس لها الحق في إطلاق النار حتى في حالة الدفاع عن النفس، وهذا الأمر مثبت في وزارة الداخلية وأيضا في محكمة المهداوي، رغم إن عمر علي عين متصرفا في السليمانية مطلق الصلاحية بإرادة ملكية وكان له حق حتى تنفيذ حكم الإعدام والعفو.
انتبه عمر علي بعد استقبال الملك ان هنالك هوة بين الشعب والحكومة وبدأ يفكر في كيفية معالجة الموضوع، كيف تخرج السليمانية عن بكرة ابيها لاستقبال الملك هذه المدينة التي كانت شبه عاصية على الدولة وتخرج مظاهرات في بقية المدن ضد الحكومة أثناء العدوان الثلاثي على مصر. ولذلك فكر عمر علي بترك الجيش والعمل السياسي وإصلاح النظام عن طريق ردم الهوة التي كانت بين الشعب والحكومة متأثرة بالدعاية المعادية للدولة، وفعلا تكلم مع الملك فيصل الثاني حول الموضوع، ولم يكن يريد تبديل النظام، وتكلم فعلا مع اللواء خليل جميل حول كيفية عمل ذلك، وكذلك مع محمود شيت خطاب وياسين رؤوف وعبد الوهاب محمود. وعلى الرغم من انهماكه في الحركات العسكرية، فانه كان حريصا على ضوابط الجيش وسلوك من بإمرته من الضباط والمراتب. وكمثال على ذلك، فإنه حصل ان بعض قطعات الجيش استولت على قسم من مزروعات ودواجن قرية بارزان التي كان رجالها من اتباع الملا مصطفى البارزاني، فغضب عمر علي وتشاجر علنا مع آمري تلك القطعات، وقدّم على إثر ذلك استقالته من الجيش مستنكرا اعتداء قطعات من الجيش العراقي على قرية عراقية، غير ان الاستقالة رفضت من قبل القيادة العراقية . وترك عمر علي بعدها متصرفية لواء السليمانية بسبب تعيينه قائدا للفرقة الأولى.
كانت لعمر علي إنجازات كبيرة في السليمانية على مدى ثلاث سنوات. فقد قام ببناء اكثر من 300 مدرسة و 250 مستوصف و150 مخفر شرطة ومعمل سمنت سرجنار ومعمل سكر السليمانية في بكرجو ومعمل نسيج السليمانية ومعمل سكاير السليمانية وسد دوكان وسد دربندخان وغيرها .
* * *
كان عمر علي أحد أبرز قادة الجيش العراقي الذي شارك في حرب تحرير فلسطين عام 1948. وكان برتبة مقدم ركن آمرا للفوج الثاني من اللواء الخامس في الجيش العراقي والذي وصل الى المفرق في الاول من حزيران/ يونيو 1948 ثم الى الزرقاء ومنها الى أريحا ومن بعدها الى نابلس .
وقد أمر بالزحف نحو “جنين” المطوّقة في الثالث من حزيران/ يونيو 1948 ، وقرر ان يكون في مقدمة الفصائل المهاجمة، وخاطب جنوده قائلا بالحرف الواحد “أيها الأخوة، سوف اتقدمكم بمسافة 50 مترا واتبعوني انتم، واذا تأخرت خطوة واحدة فواجبكم ان تطلقوا عليّ الرصاص”! واستطاع ان يتوغل بجنوده الى هاتين المدينتين وأسر العديد من القوات الصهيونية واصبح على وشك الدخول الى حيفا. وعلمت بذلك القيادة العربية العميلة آنذاك بقيادة الجنرال الانكليزي كلوب باشا الذي رأى ان الجيش العراقي بدأ يهدد بنسف الخطة الموضوعة سلفا الخاصة بعدم تجاوز حدود التقسيم الذي كان متفقا عليه سلفا، فأبرق الى نوري السعيد يخبره بان عمر علي لا ينفذ أوامر القيادة وان على الحكومة العراقية ايقافه عند حده، ذلك ان عمر علي لم يعترف بالهدنة الأولى في 11 حزيران/ يونيو 1948 والثانية في 4 تموز/ يوليو 1948. وابرق نوري السعيد اليه مهددا اياه وطالبا منه الالتزام باتفاقية ايقاف اطلاق النار. وفعلا تم ايقاف إطلاق النار في 18 تموز/ يوليو 1948 وتم سحب قطعات الجيش العراقي الى خطوط الهدنة الثانية، وبقي الجيش العراقي في منطقة المثلث محافظا على المواقع التي سيطر عليها. وعلى الرغم من قرار ايقاف القتال وقبول الهدنة، فان عمر علي قدّم اقتراحا الى القيادة العسكرية العراقية يتضمن قيام فوجه باستثمار النصر في جنين والاستمرار في المعركة بغية احتلال بعض المواقع الاستراتيجية، ولما لم توافق القيادة على المقترح، رفع عمر علي طلبا الى القيادة العسكرية لإعفائه من الخدمة معبّرا بذلك عن احتجاجه على قبول الهدنة، غير ان القيادة رفضت هذا الطلب .
في منتصف عام 1948 كانت معظم قطعات الجيش العراقي قد شاركت في حرب الانقاذ بفلسطين وانيطت الى القوات العراقية مسؤولية السيطرة على المنطقة التي تضم المدن الفلسطينية (جنين – نابلس – طولكرم – قليقلة – كفرقاسم). شارك الفوج الثاني في هذه الحرب وخاض خلالها معارك شرسة مع العصابات الصهيونية. حيث حاصرت تلك العصابات احد افواج اللواء الرابع في جنين، فأوعزت القيادة العراقية الى الفوج الثاني من اللواء الخامس الذي كان يقوده المقدم الركن عمر علي بالإسراع لنجدته، فسارع بـإكمال استحضارات الهجوم، وأدى صلاة الفجر إماماً بفوجه وبعد الفراغ من ادائها صاح بأعلى صوته الجهوري (العالي الفوج الثاني العالي) ثم كبر عدة مرات وصدحت حناجر الجنود والضباط بصوت واحد : (الله اكبر)، وارتفعت معنويات المقاتلين الى اعلى مستوياتها، وتقدم صفوفهم مفجراً حماسهم وأصبحوا كبركان ثائر يقذف حممه الملتهبة. زحف المقاتلون الى الامام يسابقون قائدهم وانقضوا على اعدائهم كالصقور الجارحة، فتفرقت صفوفهم وتشتت جمعهم واصبحت جثث قتلاهم مبعثرة على الارض المحيطة بقلعة (جنين) وقد عمل السلاح الابيض فعلته الرهيبة بهم. وتمكن الفوج من كسر الطوق وهربت القوات الصهيونية تاركة اكثر من (300) جثة لقتلاها في ساحة المعركة واستولى على الكثير من التجهيزات والمعدات والاسلحة المتروكة، وكان نصراً مبيناً لمنتسبي (الفوج الثاني العالي) وقائدهم المغوار. وبعد نجاحه الباهر مكللاً بالغار بادر بالاندفاع صوب مدينة (حيفا) إلا ان الاوامر المشددة صدرت اليه بالتوقف وعدم مواصلة التقدم بعمق الاراضي الفلسطينية.
عمر علي مع بعض معاونيه الضباط في فلسطين
يشيد “يوسف فضل” ببطولة عمر علي في هذا الصدد ضمن سلسلة (أوهام حرب 1948) انه ” قام اليهود بهجوم كبير على مدينة جنين واحتلوها بالكامل في طريقهم الى احتلال مدينة نابلس. لكن اللواء عمر علي سارع على رأس لواء عراقي وبدون الرجوع الى قيادته الى سحق الهجوم واسترجاع مدينة جنين. بل انه تقدم الى مسافة 11 ميلا شمالها وصولا الى بلدة زرعين، وفرّ اليهود مذعورين بعد ان تركوا في ارض المعركة مئات القتلى ومئات المركبات المدمرة المحملة بالعتاد والامدادات. لكن الحكومة العراقية سحبت قواتها وارجعتها الى مدينة جنين” .
ويذكر انه وبعد تحرير “جنين” اوفد الأمير عبد الاله اللواء عبد الوهاب عبد اللطيف السامرائي لتقديم التهنئة الى عمر علي لنجاحه في تحرير تلك المدينة، كما حظيت عملية تحرير جنين وقيادة عمر علي العسكرية بتثمين رئيس ركن القيادة العراقية في فلسطين العقيد الركن غازي الداغستاني والعقيد صالح زكي توفيق .
كان عمر علي العقل المدبر للحرب النفسية العراقية ضد اليهود بإطلاقه مقولة ” الجندي العراقي يأكل لحم اليهودي” التي أرعبت الصهاينة وجعلتهم يتحاشون القتال في مواجهة قوات عمر علي ويتحاشون اسم “عمر علي” الرهيب لديهم.
وتفصيل ذلك كما استقيناه من تقرير “بارز عمر علي” المرسل الى المؤلف انه وفي معركة جنين الأولى تم أسر ثلاثة ضباط اسرائيليين، أدعى اثنان منهم انهما مراسلان صحفيان فرنسيان، وادعى الثالث انه مراسل صحفي انكليزي. ورغم ان كل الدلائل كانت تشير الى ان هؤلاء الثلاثة كانوا ضباطا يهودا ضمن القوة الاسرائيلية التي احتلت جنين، فان فرنسا وانكلترة طالبتا بإطلاق سراحهم، وتم اطلاق سراحهم فعلا، غير ان عمر علي دعا هؤلاء الثلاثة الى وليمة غذاء وتعمد أن يضع في إناء الطعام الخاص بالجيش والذي يسمى في العراق (القصعة) اصبعا بشريا، ولما رأى هؤلاء الضيوف ذلك اعتقدوا انهم يأكلون لحم اخوانهم من الأسرى اليهود، وأوحى عمر علي لهم بان ما يعتقدونه أمر صحيح وواقع . وفي معركة جنين الثانية كان اليهود يهربون خوفا وفزعا ودون مقاومة لاعتقادهم انهم امام أكلة لحوم اليهود. وقد قدمت اسرائيل شكوى الى هيئة الأمم المتحدة حول ذلك.
لاحظ عمر علي ان الاستخبارات الاسرائيلية تتنصت على المكالمات اللاسلكية التي تجريها قيادته مع قطعات الجيش العراقي او مع القيادة العليا وتحصل على الاسرار العسكرية والخطط والأوامر التي تصدر منه الى اعوانه. ولم تجد كل المحاولات التقنية للحيلولة دون سرقة هذه المعلومات نفعا، فلجأ الى طريقة بسيطة للغاية اثبتت نجاحها التام في هذا المجال. ذلك انه استبدل الجنود المسؤولين عن اجهزة اللاسلكي بجنود متدربين من التركمان وأمرهم بان تكون المكالمات جميعها باللهجة التركمانية. وأسقط في ايدي المخابرات الاسرائيلية الذين فوجئوا بان المعلومات تنقل بلغة لا يفهمونها اطلاقا !
أثبت عمر علي كفاءة قتالية عالية في قيادته لقطعات الجيش العراقي، وجرأة اكسبته حب جنوده وحب الجماهير العربية الفلسطينية. قال عنه موشي دايان وزير الحرب الاسرائيلي الأسبق عندما كان قائدا للعصابات الصهيونية في القدس: ” لو ان القدس كانت ضمن مسؤوليات عمر علي لما بقي واحد منا فيها”. وكان هذا القول مبنيا على وقائع وبطولات فريدة حصلت في تلك الحرب. فقد انتصر فوج عمر علي لوحده على لواء اسرائيلي (ثلاثة افواج) والحق به الهزيمة وأجبره على الفرار من ساحة المعركة مسجلا بذلك نصرا عسكريا حاسمه وضاربا عرض الحائط القاعدة التعبوية التي تملي ان يكون المهاجم ثلاثة اضعاف المدافع. وكان ذلك مدعاة لأن يسمي الصهاينة بطل جنين بـ (القائد البربري).
ويقول يوسف فضل ضمن سلسلته التي نشرها بعنوان “أوهام حرب 1948” : “الواقع ان كافة الجيوش العربية لم تهاجم اي موقع اسرائيلي منذ دخولها فلسطين وحتى خروجها منها مع انها كانت اقوى من الجيش اليهودي. والمفارقة ان اليهود هم الذين هاجموا كل الجيوش العربية كطفل مدلل قد أمن من العقوبة. فقد قام اليهود بهجوم كبير على مدينة جنين واحتلوها بالكامل في طريقهم الى احتلال مدينة نابلس. لكن اللواء عمر علي سارع على رأس لواء عراقي وبدون الرجوع الى قيادته الى سحق الهجوم واسترجاع مدينة جنين. بل انه تقدم الى مسافة 11 ميلا شمالها وصولا الى بلدة زرعين، وفرّ اليهود مذعورين بعد ان تركوا في ارض المعركة مئات القتلى ومئات المركبات المدمرة المحملة بالعتاد والامدادات. لكن الحكومة العراقية سحبت قواتها وارجعتها الى مدينة جنين. وبعد سنوات اتضح ان الدول الكبرى كانت وجهت تهديدات عنيفة جدا للحكومة العراقية، وردت الحكومة العراقية انها لم تهاجم اليهود بل ان اليهود قاموا بمهاجمة القوات العراقية. مع أن مدينة تل أبيب والمغتصبات التي حولها بل والسهل الساحلي والمطارات الحربية والمعسكرات البريطانية التي سلمت لليهود كانت في مرمى المدفعية العراقية المتمركزة في كفر قاسم وقلقيلة وراقات إلا ان القوات العراقية لم تطلق طلقة واحدة تجاهها ولم تدخل في أي معركة بعد معركة جنين.
ومن مواقف عمر علي المشرّفة، انه عندما كان متوجها من «نابلس» الى منطقة «طول كرم »في فلسطين وعند وصوله إلى منتصف الطريق التقط اشاره استنجاد باللاسلكي صادرة من مجاهدين فلسطينيين محاصرين في مدينة «جنين» الفلسطينية بعد ان تم حصارها واقتحامها من قبل قوة اسرائيلية قوامها «10.000» جندي اسرائيلي. فأمر اللواء بالتوجه الى «جنين» دون ان يرجع الى القيادة العراقية، فوصل الى المدينة ليلا ولم تكن لديه اية خارطة او تفاصيل حولها ولكنه دخل المعركة ليلا وما ان خرج النهار حتى كان البطل وقواته قد انهوا الحصار ودخلوا المدينة وحرروها، مما اثار دهشة المراقبين بأنه كيف استطاعت قوة مكونه من 822 جندي فقط من ان تنتصر على قوة تعدادها اكثر من 10.000 جندي
إسرائيلي، ولم يخسر غير 30 شهيدا عراقيا فقط!
وعندما تمت الهدنة وتلقى تعليمات من القيادة بتبادل جثث القتلى، كانت من بين الجثث الاسرائيلية جثة تعود إلى ابنة رئيس الوزراء الاسرائيلي ومؤسس اسرائيل (بن غوريون). وبعث عمر علي من يخبر بن غوريون بانهُ سيسلم كل الجثث ماعدا جثة ابنته، وهذا لن يتم الا بشروط وهي:
اولا: ان يأتي «بن غوريون» شخصيا ويستلم الجثة بعد ان ينحني امامه
ثانيا: ان تنسحب القوات الاسرائيلية مسافة 12كم عن جنين
وفعلا تم تنفيذ هذه الشروط له مما دفع بالضابط عمر علي بدفع قوة من اللواء باتجاه مدينة «تل ابيب » التي اصبحت مكشوفه امامه بعد الانسحاب واراد مهاجمتها لولا ايقافه من قبل القيادة العربية.
حظي عمر علي ببطولاته هذه اعجاب ومحبة شعب فلسطين والشعب العربي كافة واعجاب كثير من القادة العرب. وكمثال على ذلك، أدلى لي الضابط السابق في الجيش العراقي حسين سوزلو بهذه المعلومة التي كان هو شاهد عيان فيها: قال حسين سوزلو ” كنت ضابطا في الجيش العراقي برتبة ملازم ثان في كتيبة مقاومة الطائرات الخفيفة رقم 27 التابعة للفرقة الثانية. وفي ربيع من عام 1969 اقيمت مناورة عسكرية في المفرق بالأردن، اشتركت فيها الجيوش العراقية والأردنية والسورية، وحضر المناورة الملك حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية بملابسه العسكرية، وكان عمر علي حاضرا في السرادق المعدّ لهذا الغرض، وكنت كضابط جالسا في الصفوف الخلفية، بينما كان القادة جالسين في الصفوف الأمامية. ولما شاهد الملك حسين البطل عمر علي توقف وحياه بتحية عسكرية. وكان أول من صافحه الملك هو عمر علي. ويدل ذلك على علو مرتبة عمر علي لدى الشعب العربي، وأذكر ان راديو صوت فلسطين نعاه في يوم وفاته”.
كان عمر علي يشرف على تدريب فوجه بنفسه، ويتفقد الجنود ويعرفهم فردا فردا، وكان التدريب الصباحي يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرة، وكان يقوم بمهمة الإمامة لفوجه، وبعد الانتهاء من الصلاة يتم تقديم الفوج له، وبعد استلامه الموجود كان يردد: (الفوج العالي الله اكبر الله اكبر الله اكبر) ومن ورائه جنوده يكبّرون معه.
* * *
توالى التكريم لعمر علي حتى بعد سنوات عديدة من وفاته، فقد أصدر رئيس دولة فلسطين محمود عباس شهادة تقدير وتكريم على شكل قرار مؤرخ في الأول من مارس لعام 2019 يتضمن منح القائد عمر علي (وسام نجمة فلسطين العسكري) تقديرا لنضاله وبطولاته من اجل فلسطين. وجاء ذلك خلال استقبال سيادته لنجلي الفقيد، السفيرة العراقية لدى التشيك سندس عمر، وشقيقها بارز، في مقر إقامته في العاصمة الأردنية عمان. وحضر اللقاء، سفيرة العراق لدى الأردن، وغير المقيمة في فلسطين صفية السهيل، وعضو اللجنتين التنفيذية لمنظمة التحرير، والمركزية لحركة “فتح” عزام الأحمد، والوزير مجدي الخالدي، وسفير دولة فلسطين لدى الأردن عطا لله خيري.
ويذكر انه كان من بين وصية عمر علي قوله : (اذا متّ وتحررت فلسطين، فآتوا من ترابها واجعلوه في قبري).
كما ان “جمعية الصداقة الفلسطينية العراقية في فلسطين” قدمت بتاريخ 2019 أيضا شهادة شكر الى عائلة البطل العراقي عمر علي تقديرا لبطولاته وخدماته الجليلة من اجل انقاذ فلسطين.
* * *
كان عمر علي من أشد المدافعين عن النظام الملكي في العراق ويعتبره رمزا للوحدة الوطنية في العراق.، وكان يؤمن إن الجيش عندما يحاول تغيير نظام فان ذلك طلب للجاه والسلطة، وان العرش الهاشمي هو رمز الوحدة الوطنية وان المساس به سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه على العراق.
على انه يبدو ان عمر علي لم يكن مرتاحا من تصرفات من يحيطون بالملك من اقارب وسياسيين. وحول هذه النقطة يقول عبد الجبار العمر مؤلف كتاب ” الكبار الثلاثة ” في معرض حديثه عن قضية تمرد “عمر علي” على ثورة 14 تموز/ يوليو من عام 1958 ” ان اللواء عمر علي قائد الفرقة الأولى كان يعمل للقيام بانقلاب عسكري ضد الوضع القائم لتخليص الملك (فيصل الثاني) من ولي العهد (عبد الاله) ومن نوري السعيد”.
وحول موضوع الانقلاب العسكري على الوضع القائم آنذاك، يفيد “بارز عمر علي” – وهو ابن المرحوم عمر علي – انه تكونت قناعة لدى “عمر علي” من وجود محاولة انقلاب عسكري ضد النظام الملكي وبالأخص اثر محاولة اغتيال الملك اثناء التمارين العسكرية التي جرت في الصحراء . وكان عمر علي يعتقد ان الهدف من ذلك ادخال البلاد في دوامة ليست لها نهاية، وان قناعته ازدادت بسبب اصرار الملحق العسكري البريطاني على غلق هذا الموضوع وعدم فتح تحقيق حوله، بالإضافة الى اصرار كل من عبد الاله وهو خال الملك فيصل ونوري السعيد ورئيس اركان الجيش آنذاك رفيق عارف على عدم فتح التحقيق في الموضوع. وكان عمر علي يرى بان من الواجب القيام بعمل استباقي لأي انقلاب عسكري وذلك للحفاظ على العرش الهاشمي الذي كان يراه رمزا للوحدة الوطنية. ولذا فقد كان يفكر جديا لعمل شئ بهذا الصدد، غير ان الظروف حالت دون ذلك .
اما عن موضوع تمرد “عمر علي” على ثورة عام 1958 التي اطاحت بالنظام الملكي، فيقول عبد الجبار عمر ” ان عمر علي أعلن التمرد على ثورة 14 تموز وحاول الزحف على بغداد والقى خطبة في الجنود ورد فيها قوله: (ان جماعة من الشيوعيين قاموا بثورة في بغداد ويريدون تسليم البترول وخيرات البلاد الى الأجانب)، وطلب تأييد الحكومة وهتف بحياة حفيد شهيد كربلاء وعلي بن ابي طالب وفاطمة الزهراء”.
وتفصيل ذلك انه وفي صبيحة يوم 14 تموز/ يوليو من عام 1958 وهو يوم الثورة التي قادها عبد الكريم قاسم وافرزت عن سقوط النظام الملكي واعلان الجمهورية في العراق، وفور اذاعة البيانات والأوامر العسكرية من اذاعة بغداد، اصدرت قيادة الفرقة الأولى – التي مقرها في الديوانية – أوامر انذارية بتجمع الوحدات في ساحة تدريب كتيبة المدفعية الخامسة. وظهر القائد اللواء الركن عمر علي ومعه اركان قيادته من الضباط الكبار، وخاطب الجمع قائلا: ” صباح الخير ابطال الفرقة الأولى، السلام عليكم ايها الضباط وضباط الصف والجنود الشجعان”. وأخذ الجنود والضباط يهتفون “عاش عمر علي بطل معركة جنين”. واسترسل عمر علي قائلا : “ان بعض الشيوعيين الملحدين استولوا على مرسلات الاذاعة في ابو غريب ببغداد وانهم يريدون ان يقلبوا نظام الحكم الى حكم شيوعي كافر وملحد وحاقد. ان واجبنا يحتم علينا كجيش مخلص الى صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني ابن الرسول محمد (ص) وابن فاطمة الزهراء البتول الطاهرة ان نسحق هؤلاء الخونة والكفرة. وسوف تتحرك الفرقة الأولى الى بغداد للقضاء على الشيوعيين الملحدين الكفرة”.
يقول زكريا جاسم السامرائي الضابط العراقي المتقاعد في مقال له بعنوان “للحقيقة والتاريخ” : انه كان منضما مع عدد من ضباط الفرقة الأولى الى “منظمة الضباط الأحرار” التي نفذت عملية الانقلاب والاطاحة بالنظام الملكي في العراق، وان هؤلاء الضباط اجتمعوا في غرفة مسؤولهم العقيد خير الدين الحافظ، وانهم قرروا اعتقال او حجز او قتل القائد عمر علي، وان التنظيم اوكل اليه تنفيذ هذا القرار. ويستطرد هذا الضابط في مقاله قائلا : “عندما اردت اختيار جنود لتنفيذ هذه المهمة، اذا بالقائد وجها لوجه على باب ثكنة الفصيل. وبدلا من اعتقاله او قتله، فقد أديت له التحية العسكرية بصورة غير ارادية، ولم اتمكن ان اقوم بأي عمل امام هذا القائد الفذ الشجاع. ولم يكن موقفي هذا تخاذلا، وانما كان موقفا اخلاقيا أملاه علي سلوكي العسكري. فعمر علي كان آمر الكلية العسكرية التي درست فيها وسهر علينا في الدراسة والتدريب في الكلية، وهو قائد فرقتنا الذي درّبنا في التمارين وأعدّنا لنكون طليعة الجيوش العربية لتحرير فلسطين. وهو اول قائد لجيش عربي عراقي مسلم ينتصر على الصهاينة في معركة جنين عام 1948. وفي عصر نفس اليوم وعندما تأكد لعمر علي ان الثورة نجحت، امر بتجميعنا امام ساحة مقر الفرقة وخطب بنا وهو يرتدي ملابس مدنية ويعتمر سدارة رصاصية، وطلب من وحدات الجيش الحذر من دعاة الفتنة والانفصال الشيوعيين، وصافحنا فردا فردا وركب في السيارة مع عائلته متوجها الى بغداد”.
صورة شخصية للعقيد الركن عمر علي اهداها بخط يده
الى الرائد شاكر محمود السامرائي
يقول بارز عمر علي – ابن المرحوم عمر علي – في معرض رد له على مقال لحميد المطبعي : ” ان عمر علي لم يوقف أوامر تحرك الفرقة الأولى نحو بغداد الا بعد ان علم بمقتل العائلة المالكة، حيث كان قد أرسل ضابطا الى بغداد للاستعلام عن الموقف، وانه لم يترك عمله الا بعد ان اتصل به عبد الكريم قاسم طالبا منه القدوم الى بغداد لتدارس الموقف. وهذه المعلومات مذكورة في وقائع محكمة المهداوي”. ويضيف بارز عمر علي في سياق هذا الرد انه “لم يعترض اي ضابط على أوامر الحركات الى بغداد”.
ويظهر من كل ذلك جليا ان “عمر علي” كان من انصار النظام الملكي في العراق وكان يعتبر العرش الهاشمي هو رمز الوحدة الوطنية وان المساس به سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه على العراق، وان ذلك جعله يحاول مقاومة الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الملكي في اليوم الرابع عشر من تموز/ يوليو لعام 1958. ولنا خير دليل على ذلك ما رواه الدكتور صبحي ناظم توفيق حول الموضوع في مقابلة جرت بينه وبين عمر علي. اذ يذكر صبحي ناظم انه ذكر له في بداية المقابلة ان السيد رئيس الجمهورية (عبد السلام عارف) ذكره بالخير ووصفه بانه بطل من ابطال حرب فلسطين، وان عمر علي تحوّل عند سماع ذلك الى كتلة من نار، وبات يزأر كالأسد وبأعلى صوته : ” ان هذا “الأرعن الأهوج” في تصرفاته، والصبياني في طموحاته، قد قاد عراقنا العزيز الى ما أمسى عليه الآن .. وانه لو لم يهجم على بغداد وقصور العائلة الهاشمية ودار نوري السعيد، ولو لم يقترف ما خطاه في ذلك اليوم المشؤوم، لما كان “عبد الكريم قاسم” قد استطاع قلب نظام الحكم واستحوذ على كرسي السلطة عام 1958 .. ان عبد السلام هو المسؤول الأول عما قاسيناه وعاناه هذا الشعب المسكين وتعرض له هذا البلد المعطاء وما سيتعرض له من مآسي ومذابح ومجازر هنا وهناك وعما سيصيبنا من أوضاع غير مستقرة لسنوات طويلة قادمة” … ان الثوار لم يكونوا سوى حفنة من الضباط المجازفين والطامعين في تسلم مناصب ليسوا اهلا لها، أرادوا السيطرة على مقاليد الحكم فسيطروا، وكان ما كان …” .
ويذكر فيصل حسون في كتابه (شهادات في هوامش التاريخ) انه كانت لدى عمر علي مذكرة مكتوبة يدعو فيها إلى اقامة مجلس استشاري يضم رجال الفكر ووجوه البلاد يتاح لهم الإسهام في إدارة الشؤون العامة للبلاد. كما كانت له دعوة للزعيم قاسم للحذر من المد الشيوعي، وفي تلك الفترة كان قاسم قد استجاب لرغبة الملا مصطفى البارزاني في العودة للعراق، ولأن اللواء عمر علي التركماني هو القائد الوحيد الذي استطاع ان ينهي حركة البارزاني في حركات الشمال عام 1943 فانه خشي ان (تعود ريمه لعادتها القديمة) لذلك طلب من صبحي عبد الحميد مبعوث قاسم اليه ان يحذر عبد الكريم من عودة البارزاني للعراق لئلا يتعرض استقرار البلاد للخطر من جديد.
* * *
احيل عمر علي على التقاعد في صبيحة يوم 14 تموز/ يوليو من عام 1958، والغريب ان قرار التقاعد علل الأمر بـ “عدم كفاءته كضابط”! وكانت رتبته العسكرية آنذاك لواء ركن. واحيل بعد ذلك الى محكمة الثورة التي كان يرأسها فاضل المهداوي – من اقارب قائد الثورة عبد الكريم قاسم -. وكانت التهمة الموجهة اليه من قبل المدعي العام العسكري ماجد محمد أمين هي: محاولة اخماد ثورة الرابع عشر من تموز، وقمع الحزب الشيوعي عندما كان متصرفا (محافظا) للواء (محافظة) السليمانية، والقضاء على العصابات المتمردة على سلطة الحكومة، والقضاء على نفوذ الشيخ محمود الحفيد.
وطلب رئيس المحكمة المهداوي اثناء المحاكمة من الحضور عدم التصفيق والهتاف في سابقة هي الاولى من نوعها في تاريخ تلك المحكمة، وذلك احتراما لشخصية المتهم عمر علي.
أصرّ عمر علي في افادته امام تلك المحكمة ان ما قام به يوم 14 تموز هو ما أملاه عليه حرفيته العسكرية ولم ينف اية أوامر للتحرك نحو بغداد لقمع الثورة، واوضح انه لم ينه اوامر الحركات العسكرية الا بعد تأكده من مقتل العائلة الملكية واتصال عبد الكريم قاسم به والطلب منه الحضور الى بغداد لغرض التشاور معه. واضاف في افادته “انه لا يفهم كيف لعسكري محترف أقسم على القرآن ان يكون ولاؤه للملك ويحنث بالقسم”. اما بالنسبة للتهم الموجهة له في قضية عصابتي “خولا بيزا” و”خولا سلكا”، وقضية الحكم على الشيخ لطيف بن الشيخ محمود الحفيد بالسجن 15 عاما، وفق القانون العشائري الذ كان نافذا في ذلك العهد، فقد أثبت عمر علي بشكل قاطع صحة وقانونية هذه القرارات وخاصة بالنسبة الى قضية عصابة “خولا بيزا” التي ثبت انها قد قتلت أكثر من ثلاثمائة وخمسين شرطيا واربعمائة وخمسين مدنيا على مدى اكثر من عشرين سنة.
أصدرت محكمة الشعب حكما بإعدام عمر علي لمقاومته ثورة الرابع عشر من تموز وطرده من الجيش وببراءته من التهم الأخرى. والغريب ان المحكمة اوصت في صلب قرار الاعدام رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بعدم تنفيذ هذا القرار وبتخفيض العقوبة الى الاشغال الشاقة المؤبدة نظرا لخدمات عمر علي الجليلة للجيش والشعب. وكان ذلك أحد القرارات العجيبة التي كانت تصدر من محكمة المهداوي. وفي عام 1960 اصدرت وزارة الدفاع امرا بتخفيض عقوبة الاعدام الى السجن لمدة سبع سنوات، وتلاه قرار آخر في عام 1961 يقضي بإلغاء عقوبة طرده من الجيش، وقرار آخر في عام 1961 بتخفيض عقوبة السجن الى خمس سنوات الاّ يوما.
قضى عمر علي في السجن ثلاث سنوات واربعة أشهر زاره خلالها رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ثلاث مرات. وفي احدى الليالي طلب عبد الكريم قاسم حضور عمر علي الى وزارة الدفاع، وكان ذلك في الساعة الواحدة ليلا. وبعد المداولة معه حتى الساعة السابعة صباحا، وبعد ان تناولا الافطار معا قال عبد الكريم قاسم لعمر علي: تستطيع أن تأخذ السيارة وتذهب الى البيت. وسأل عبد الكريم قاسم عمر علي عن أي طلب يريده فأجابه عمر علي ” ليس لدي طلب شخصي ولكني ارى ان تطلق سراح جميع المحكومين من العهد الملكي وكذلك جميع المساجين السياسيين في سجن باب المعظم وتكون بذلك قد قمت بعمل سيذكره لك التاريخ”. فأجاب عبد الكريم قاسم باللهجة البغدادية: “انتظر كم يوم ويصير خير اكيد”. وفعلا وبعد ثلاثة اسابيع تم اطلاق جميع من في سجن باب المعظم واغلق السجن .
وبعد القضاء على حكم عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط/ فبراير لعام 1963، صدر مرسوم جمهوري مؤرخ في 19 تموز/ يوليو 1964 بالافراج عن عمر علي وإلغاء تهمة التآمر المسندة اليه وإعادة الاعتبار اليه .
توفي عمر علي في يوم 29 من شهر أب/ اغسطس من عام 1974 على إثر حادث سيارة قرب بلدة الرطبة. واورد “مير بصري” في كتابه “اعلام التركمان والأدب التركي في العراق الحديث” ان اسرته كذبت خبر الحادث وقالت انه اغتيل في طريق عودته مع عائلته من بيروت .
ولعل احسن من يمكن له ان ينقل لنا تفاصيل حادث وفاة عمر علي هو ابنه “بارز” الذي يفيد حول ذلك بما يلي باختصار :
” في يوم 29- 8 -1974 وعندما كنت ضابط خفر في غرفة عمليات القوة الجوية اتصل بي أحد المسؤولين واعلمني ان والدي قد تعرض لحادث وانه بالطريق الى قاعدة الرشيد الجوية. وعند ذهابي الى قاعدة الرشيد علمت ان والدي وشقيقتي “الدكتورة بيان” قد توفيا، وان والدتي في حالة حرجة. وعند نزول طائرة الهليكوبتر التي اقلت ضحايا الحادث ابلغت أن رئيس الجمهورية احمد حسن البكر أمر بنقل جثمان والدي الى مستشفى الرشيد العسكري، وتم نقل والدتي وجثمان شقيقتي “بيان” الى مدينة الطب واجريت عملية جراحية في الجمجمة لوالدتي لوجود نزف فيها، وكان هنالك آثار عجلات سيارة على اطرافها السفلى. ذهب احمد حسن البكر فجرا الى مستشفى الرشيد وطلب تشريح الجثمان وكان ضابط الخفر الطبيب العقيد قاسم العوادي ولم يترك احمد حسن البكر المستشفى الا بعد ان استلم تقرير التشريح وجاء مخالفا لتقرير الرطبة، حيث ورد فيه “هنالك جرح نافذ الى القلب تحت الابط الايمن ادى الى الوفاة” في حين ان تقرير الرطبة يقول “ان كسرا في الجمجمة ونزفا بالدماغ اديا الى الوفاة”. وبعد انتهاء مجلس العزاء في كركوك وثم في بغداد في جمعية المحاربين القدماء ثم في نادي الاخاء التركماني، ذهبت الى الرطبة وكان برفقتي نجدة النقيب وطارق سيد حميد. وطلبت من قاضي تحقيق الرطبة الاوراق الخاصة بالتحقيق. وعندما سألته ان كان هو من خرج للكشف وعمل المخطط، اجابني ان الذي خرج للكشف هو مفوض مركز شرطة الرطبة الخفر، فطلبت من مفوض الشرطة المذكور مرافقتي الى مكان الحادث ورأيت السيارة وكانت سليمة حيث تمت قيادتها الى بغداد ولكن كان باب السائق لا يمكن فتحه وكان هنالك كسر في الزجاج الامامي. ذهبت الى مكان الحادث ووجدت بقعة دم على يسار الطريق وعندما سألت الشرطي عن ذلك قال: “هذا مكان السيارة وهذه البقعة لأختك بيان”. وسألت عن مكان والدي فاتجهنا مسافة 1600 متر عكس اتجاه السيارة و200 متر يسار الطريق وعندما سألت عن موقع والدتي اتجهنا مسافة 800 متر مع اتجاه السيارة و120 متر يسار الطريق كما مبين في المخطط. وعند عودتي الى الرطبة ذهبت الى قاضي التحقيق واعلمته ان المخطط غير مطابق للحادث واجابني: “انني متأثر جدا بما حدث وان ذلك لا يغير شيئا وانك لاتزال شابا فانتبه لنفسك”! عدت الى بغداد في الساعة الواحدة ليلا، وفي الساعة الخامسة صباحا تلقيت مكالمة هاتفية من المستشفى تفيد بان والدتي قد توفيت.
مخطط يوضح موقع الحادث
قابلت احمد حسن البكر واقسم انه لم يكن على علم بالاغتيال ولكنه لم ينف ذلك. وقال لي وزير الداخلية سعدون غيدان وطارق حمد العبد الله الذي كان مرافقا أقدما لرئيس الجمهورية ان احمد حسن البكر لم يكن على اطلاع بما جرى. وكذلك اوصاني كل من زكريا بكر التكريتي واللواء الطيار محمد صالح التكريتي أقرب اصدقاء والدي في تكريت بان اكون على حذر. ووجه لي السفير الاردني ببغداد دعوة استضافة من قبل الملك حسين. ووجهت لي دعوة مماثلة من معمر القذافي بواسطة اللواء الركن محمود شيت خطاب. وقد كانت لوالدي علاقة مباشرة مع معمر القذافي. واضيف هنا بان جميع الامتعة الموجودة في السيارة لم يفقد منها شئ فيما عدا حقيبة سوداء كانت فيها اوراق شخصية وجوازات السفر”.
و يقول “زهير عبد الرزاق” في مقال له حول حادث وفاة عمر علي نتيجة انقلاب سيارته في شهر أغسطس من عام 1974، وهل كان ذلك قضاء قدرا ام ان جهة معينة دبّرت قتل المرحوم عمر علي، انه: ” لا يوجد ما يشوب العلاقة بين عمر علي والنظام السابق، بل بالعكس كانت جيدة لأنه لم يمارس اي نشاط مشبوه او معاد ولم يشكّل خطرا يهدده يبرّر تصفيته. لكني لا استطيع ان اؤكد او انفي بالوقت نفسه علاقة الموساد الاسرائيلي بالحادث بسبب الحقد الدفين عليه لأنه اوجعهم واذلّهم بمعركة جنين خلال حرب فلسطين (1948 – 1949) ولا ننسى روح الانتقام التي يمتاز بها الصهاينة لكل من حاربهم او وقف ضد تنفيذ مخططاتهم الجهنمية
نقل جثمان عمر علي الى مدينته كركوك حيث ووري التراب في مقبرة العائلة التي قام هو بتشجيرها والاعتناء بها منذ عام 1955. ولا زال شاهد القبر قائما في تلك المقبرة ومدوّن عليه تاريخ وفاته وابيات من الشعر في رثائه باللغة التركية (التركمانية) . وتقع هذه المقبرة امام دار علي بيرقدار التي كانت دارا تضم مجلس الرجال (ديوانخانة) ومربطا للخيول وكانت دارا كبيرة قسمت فيما بعد الى ستة منازل وكانت ملكيتها تعود الى عمر علي ومن قبله الى والده. وقد ولد عمر علي وابناه نبيل وبارز في هذه الدار. واقامت جهات عديدة مجالس الفاتحة على روح المرحوم عمر علي، وكان من بينها مجلس الفاتحة الذي أقامه نادي الاخاء التركماني ببغداد . ويذكر انه كان من بين وصية عمر علي قوله : (اذا متّ وتحررت فلسطين، فآتوا من ترابها واجعلوه في قبري).
ويقول عنه الكاتب التركماني احمد قوشجو اوغلو في مقال له بعنوان (أمير اللواء الركن … عمر علي) انه كانت للمرحوم عمر علي مؤلفات عسكرية وتاريخية لم تر النور لحد الان، وابرزها “مذكرات عمر علي” من اعداد وتحقيق العميد الركن المتقاعد صباح علي غالب، وقد تم نشر 13 حلقة منها في جريدة القادسية، وانها موجودة في المكتبة الخاصة به.
* * *
كان عمر علي رجلا مسلما مؤمنا ملتزما بتعاليم الاسلام مؤديا لفرائضه منذ الصغر. وكان كثير من قادة ورجالات الدولة حتى في العهد الجمهوري يحترمونه ويرون فيه بطلا قوميا ومحاربا صنديدا، ومن بين هؤلاء رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف في الفترة 1963– 1966 . وكان يحب مدينته ومسقط رأسه كركوك، ويحب كل من هو كركوكي. كما كان يكن أشد الحب لأهالي تلعفر والنبي يونس بالموصل. كان عمر علي يزور أصدقائه واحبّائه كثيرا في “نادي الأخاء التركماني” ببغداد، حيث كان يجلس معهم ساعات طويلة في حديقة النادي. وكان مؤلف هذا الكتاب من بين من التقى به في تلك الحديقة مرات عديدة، وكان يلحظ فيه تواضعه الشديد.
المصادر
– الدكتور محمد الحربي، عمر علي ودوره الوطني في تاريخ الجيش العراقي، جريدة العراق، 1995
– بارز عمر علي .. وحديث عن صفحات مشرقة عن حياة القائد عمر علي، مقال في جريدة “توركمن ايلي” ، العدد 147، 23 تموز/ يوليو 2019.
– محمد هادي الدفتر، العراق الشمالي، بغداد 1955.
– عارف العارف، النكبة (نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود) ، المجلد الثاني، بيروت، سنة الطبع (غير مذكورة).
– صبحي ناظم توفيق، اللواء الركن عمر علي..اراؤه في السياسة وعبد السلام عارف، اوراق تركمانية، الاصدار الثالث، تموز/ يوليو 2006.
– منار محمد شهاب الدليمي، عمر علي ودوره السياسي والعسكري حتى عام 1958، رسالة نالت بها المؤلفة درجة الماجستير من جامعة بغداد، مطبعة فضولي، كركوك، 2013.
– مجلة المقاومة الناطقة باسم اللجنة السياسية للثورة الفلسطينية في العراق، العدد 70، 10 ايلول/ سبتمبر 1984.
– مير بصري، اعلام التركمان والآدب التركي في العراق الحديث، دار الوراق للنشر، لندن، الطبعة الاولى 1997.
– عبد الجبار العمر، الكبار الثلاثة – ثورة 14 تموز في 14 ساعة، مطبعة دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1990.
– مجلة “المقاومة”، الناطقة باسم اللجنة السياسية للثورة الفلسطينية في العراق، العدد 70، أيلول/ سبتمبر 1984.
– صباح عبد الله كركوكلي، موسوعة اعلام التركمان، بغداد 2017
– احمد قوشجو اوغلو، رجال خالدون، عمر علي بطل معركة جنين، مجلة الأخاء، العدد 11 – 12، نيسان – مايس 1985.
– احمد قوشجو اوغلو، امير اللواء الركن عمر علي، مجلة توركمن ايلي الأدب والفن، العدد 51، نيسان/ ابريل 2012
– طلعت نوري بيرقدار، بطولات تركمانية نادرة في تاريخ العراق المعاصر، اللواء الركن عمر علي، مجلة الأخاء البغدادية، العدد 213 – 214، نيسان/ ابريل – مايس/ مايو 2005.
– فوزي نوري عبد الله البياتي، نبذة عن السيرة العسكرية لأمير اللواء عمر علي يرويها بنفسه، مجلة (المحارب) بكركوك، العدد 32 – 33 – 34 / كانون الثاني/ يناير 2015.
– فيصل حسون، شهادات في هوامش التاريخ، دار الوراق للنشر والتوزيع، بغداد – 2001.
– جتين عبد الكريم كولمن ، “المرحوم عبد الكريم قوريات” مجلة المحارب، العدد 4 ، اغسطس 2010 .
– الدكتور محمد عقل، دور الجيش العراقي في حرب 1948، موقع دنيا الوطن، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013.
– زهير عبد الرزاق، صوت العراق، 2015.
– ويكيبيديا – الموسوعة الحرة